ترجمته جميع حال ذلك الشخص، ويعبر عنه لا تزيد عليه ولا تنقص عنه، وأن لا يغلبه الهوى فيخيَّل إليه هواه الإطناب في مدح من يحبه والتقصير في غيره، بل إما أن يكون مجردًا عن الهوى وهو عزيز، وإما أن يكون عنده من العدل ما يقهر به هواه ويسلك طريق الإنصاف.
فهذه أربعة شروط أخرى، ولك أن تجعلها خمسة؛ لأن حسن تصوره وعلمه قد لا يحصل معهما الاستحضار حين التصنيف، فيُجعل حضور التصور زائدًا على حسن التصور والعلم. فهي تسعة شروط في المؤرخ، وأصعبها الاطلاع على حال الشخص في العلم، فإنه يحتاج إلى المشاركة في علمه والقرب منه، حتى يعرف مرتبته. انتهى.
وذكر أن كتابته لهذه الشروط كانت بعد أن وقف على كلام ابن مَعين في الشافعي، وقول أحمد بن حنبل: إنه لا يعرف الشافعي، ولا يعرف ما يقول.
قلت: وما أحسن قوله: ولما عساه يطول في التراجم من النقول ويقصر. فإنه أشار به إلى فائدة جليلة، يغفل عنها كثيرون، وبحترز منها الموفَّقون، وهي تطويل التراجم وتقصيرها؛ فربّ محتاطٍ لنفسه لا يذكر إلا ما وجده منقولًا، ثم يأتي إلى من يُبغضه فينقل جميع ما دُكر من مذامّه، ويحذف كثيرًا مما نقل من ممادحه، ويجيء إلى من يحبه فيعكس الحال فيه، ويظن المسكين أنه لم يأت بذنب؛ لأنه ليس يجب عليه تطويل ترجمة أحد، ولا استيفاء ما ذكر من ممادحه، ولا يظن المغترّ أن تقصيره لترجمته بهذه النية، استزراءٌ به، وخيانة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين في تأدية ما قيل في حقه؛ من حمد وذم، فهو كمن يُذكر بين يديه بعض الناس فيقول: دعونا منه، وإنه عجيب، أو الله يصلحه، فيظن أنه لم يغتبه بشيء من ذلك، وما يظن أن ذلك من أقبح الغيبة.
ولقد وقفت في تاريخ الذهبي رحمه الله على ترجمة الشيخ الموفق ابن قدامة الحنبلي، والشيخ فخر الدين بن عساكر، وقد أطال تلك وقصر هذه، وأتى بما لا يشك لبيب أنه لم يحمله على ذلك إلا أن هذا أشعري وذاك حنبلي، وسيقفون بين يدي رب العالمين.
وكذلك ما أحسن قول الشيخ الإمام: وأن لا يغلبه الهوى. فإن الهوى غلّاب، إلا لمن عصمه الله.
وقوله: فإما أن يتجرد عن الهوى، أو يكون عنده من العدل ما يقهر به هواه. عندنا فيه زيادة، فيقول:
قد لا يتجرد من الهوى، ولكن لا يظنه هوى، بل يظنه لجهله أو بدعته حقًّا، وذلك لا يتطلب ما يقهر هواه؛ لأن المستقر في ذهنه أنه محقٌ؛ كما يفعل كثير من المتخالفين في العقائد بعضهم في بعض، فلا ينبغي أن يُقبل قول مخالف في العقيدة على الإطلاق، إلا أن يكون ثقة، وقد روى شيئًا مضبوطًا عاينه أو حققه.
وقولنا: مضبوطًا. احترزنا به عن رواية ما ينضبط من التُّرَّهات، التي لا يترتب عليها عند التأمل والتحقق شيء.
وقولنا: عاينه أو حققه. ليخرج ما يرويه عمن غلا أو رخص؛ ترويجًا لعقيدته.