عياض وبين ابن العريف مكاتبات حسنة، وقال إنه رأى لابن العريف رسالة كتبها إليه فأحب ذكرها ثم أضرب عن ذلك لطولها. وقد استوقفني هذا الخبر لغير سبب، أولًا: لأنه قد يفيد أن هذا الجانب الزهدي كان قوي الأثر في شخصية القاضي عياض، فابن العريف كان صاحب طريقة في التصوف، له أتباعه ومريدوه، وثانيًا: أن ابن العريف كان على صلة بابن قَسِّي صاحب كتاب "خلع النعلين"، شيخ "المريدين" وزعيمهم "وكانت هذه الطائفة قد كثرت يومئذٍ بغرب الأندلس، لا سيما بمدينة شلب، وكثر خوضهم في كتب التصوف وموضوعات الغلاة من الباطنية، والكلف برسائل إخوان الصفا وأمثال ذلك، وانتشر هذا الرأي بشلب ولبلة ونظر مرثلة، وهي بلدة أبي القاسم أحمد بن الحسين بن قسي، وكثر جمعهم ووقع الحديث بهم، وحذروا صاحب الدولة فتفرقوا واستقوى حد نحلتهم بالمرية، وكان بها رئيس هذا الشأن ودخلته والمشهور فيه الشيخ أبو العباس ابن العريف". وقد أعلن هؤلاء "المريدون" الثورة على المرابطين.
فما هي حقيقة العلاقة بين القاضي عياض وابن العريف، وما نوع تلك المكاتبات التي جرت بينهما؟ هل ثمة رابط بين هذه الصلة وثورة القاضي عياض، أم أن الأمر يقتصر على الإعجاب المتبادل؟ لا نستطيع القطع بشيء طالما أن المصادر لا تسعفنا، فقد أغفلت ذكر هذه العلاقة كما أغفلت تفصيل أمر الثورة، كما أن رسائلهما لم تصلنا، ويبقى هذا الموضوع بحاجة إلى دراسة متعمقة، غير أنني أحببت أن ألمح إلى عمق الاتجاه الزهدي عند القاضي عياض كما يبرز في الغنية) أ. هـ.
قلت: وقال الدكتور البشير علي بن حمد الترابي في كتابه "القاضي عياض وجهوده في علمي الحديث رواية ودراية"(ص ١٤٩): "كان القاضي أشعري العقيدة على طريقة أبي الحسن الأشعري، وهذا شأن غالب المالكية بالمغرب والأندلس، وقد قرأ القاضي مذهب الأشعري بسبتة صغيرًا، على شيوخه مثل محمّد بن عيسى التميمي وغيره.
ومما قرأه من كتب الأشاعرة رسالة ابن أبي زيد القيرواني، فقد خص ابن أبي زيد قسمًا كبيرًا من أولها جمع فيه العقيدة على مذهب الأشعري. كما قرأ كتاب (المنهاج) لأبي الوليد الباجي وغير ذلك.
وهكذا تشبغ بالعقيدة الأشعرية صغيرًا، وتمسك بها، وهو في الشفا نراه يحتج كثيرًا بآراء أبي الحسن الأشعري وإمام الحرمين الجويني، مما يثبت صلته الوثيقة بكتبهم ومؤلفاتهم في العمدة، وهو إذا ذكر قول أحد الأشعرية قال:(من أئمتنا)(١).
وفي (الشفا) ناقش القاضي في مواطن كثيرة آراء المعتزلة والفرق الاعتقادية الأخرى على اختلاف المذاهب، كالفلاسفة، والخوارج، وغيرهم.
والقاضي كأشعري له موقف عدد من آراء المعتزلة في مسائل العقيدة في عمل العبد، ورؤية المولى جل شأنه في الآخرة وغير ذلك.