والذي يرى مقاتلة من يصرون على إهمال السنن يرفض بلا جدال الرأي القائل بأنه لا تضر مع الإيمان معصية، ويربط بين الاعتقاد والعمل، وهذا يعطي أن الإيمان لديه تصديق بالقلب والجوارح، وهذا ما لا تراه المرجئة فهم يفصلون بين الإيمان والعمل، ومنهم من غالى وتطرف وذهب إلى أن من اعتقد بقلبه كان أعلن الكفر بلسانه وعبد الأوثان، أو لزم اليهودية والنصرانية وعبد الصليب ومات على ذلك فهو مؤمن كامل الإيمان عند الله عَزَّ وَجَلَّ.
ومن ثم فإن الإمام محمدًا لا يمكن أن يكون من المرجئة بهذا المعنى. ولعل اتهام الإمام محمّد وأمثاله من الفقهاء بالإرجاء مبعثه أن المعتزلة كانوا يطلقون كلمة مرجئي على كل من خالفهم في آرائهم ولا سيما في مسألة مرتكب الكبيرة، فالمعتزلة يرون أنه مخلد في النار، على حين لا يرى الفقهاء ذلك، ويقولون بل يعذب بمقدار وقد يعفو الله عنه، ويبدو أن الشهرستاني حين روى عن أبي حنيفة وأصحابه أنهم مرجئة السنة إنما يعني أنهم مرجئة بالمعنى الذي أطلقه عليهم المعتزلة، كما أطلقوه على غيرهم من الفقهاء.
على أن الإمام محمَّدًا فيما أرى لم يجنح إلى الاهتمام بمناقشة الفرق التي خاضت في مسائل علم الكلام، ولذا لم تنقل عنه روايات أو مؤلفات فيه، وما ينسب إليه من أنه نظم قصيدة في العقيدة فغير صحيح وفي الفصل التالي حديث عنها يثبت خطأ نسبتها إليه.
ومما يدل على أنه كان يؤثر عدم الخوض فيما أثارته تلك الفرق من مسائل العقيدة ما روي عنه أنه ذم علم الكلام، ولا شك أنه إنما ذم هؤلاء الذين أسرفوا في التأويل وخالفوا طريقة السلف في فهم عقائد الدين الحيف، لا أنه ذم هذا العلم مطلقًا.
ونقل عن محمّد أن أبا حنيفة قال: لعن الله عمرو بن عبيد، فإنه فتح للناس الطريق إلى الكلام فيما لا يعنيهم من الكلام، قال محمّد: وكان أَبو حنيفة يحثنا على الفقه وينهانا عن الكلام.
ولكن هل معنى هذا أن محمدًا لم يكن يعرف ما شجر بين علماء عصره من خلافات كلامية، وماذا كان موقفه من البحث في مسائل علم الكلام؟
إن حياة هذا الإمام تبرز حقيقة لا خلاف عليها وهي أنه انكب على علم الفقه يدرسه ويدارسه ويدونه وقد صرفه هذا عن الاهتمام بغير الفقه وإن كان مشهودًا له بالإمامة في الحديث والتفسير واللغة.
ولهذا أرجح أن الإمام محمدًا، لم يكن يميل بطبعه إلى البحث في المسائل الكلامية لا ضعفًا منه عن الخوض فيها، ولكن إيمانًا بأن السبيل الحق للحديث عنها، هو ما أخذ به السلف الصالح من اعتماد على آيات الله وسنة رسوله بلا شطط عقلي يدخل على عقائد الناس الزيغ والفساد أكثر مما يعصمها من ذلك، وكأنه كان يرى أن الاشتغال بالعلم يجب أن ينصب على ما ينفع الناس في دينهم ودنياهم، لا أن يكون مجالًا لصراع فكري لا ينجم عنه غير الانحراف أو الشك.