حتى بدأت تظهر آثار الاضطهاد له، "وقد حاول الحنابلة أن يمنعوا الخطيب البغدادي (المتوفى في عام ٤٦٣ من الهجرة) من دخول المسجد الجامع ببغداد، لأنه كان يذهب مذهب الأشعري (١)، وكان أكابر الأشاعرة في ذلك العهد يضطهدون ويساء إليهم، وقد تحاملت الحنابلة على رجل من كبار الأشاعرة ذوي النفوذ وهو القشيري (المتوفى في عام ٥١٤ من الهجرة) ووقع بسبب ذلك قتال في الشوارع واضطر القشيري إلى ترك بغداد، ومن هذه الحادثة أرخ ابن عساكر مبدأ وقوع الانحراف بين الحنابلة والأشاعرة"، وكان شيخ الحنابلة في أخريات القرن الرابع الهجري "يلعن أبا الحسن الأشعري وينال من الأشاعرة" ومن ناحية أخرى "كان الكرامية قد تحزبوا على الأشاعرة وهاجموهم مهاجمة عنيفة، ورفعوا أمرهم إلى السلطان محمود بن سبكتكين مدعين أن الأشاعرة يعتقدون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس نبيًّا اليوم، وأن رسالته قد انقطعت بموته، ولم يكن هذا معتقدًا للأشاعرة يومًا ما".
ومهما يكن من شيء فقد أذن الله تعالى لمذهب الأشعري أن ينتشر ويذيع في الناس، انتشارًا وذيوعًا بطيئين، كما ذاع في أقصى المشرق مذهب أبي منصور الماتريدي الذي كان بينه وبين مذهب أبي الحسن الأشعري تشابه كثير في الأصول "وتدخلت الحكومة في أوائل القرن الخامس الهجري نوعًا من التدخل الرسمي لفض المنازعات المذهبية، ففي عام (٤٠٨) من الهجرة (١٠١٧ - من الميلاد) أصدر الخليفة القادر كتابًا ضد المعتزلة، يأمرهم فيه بترك الكلام والتدريس والمناظرة في الاعتزال والمقالات المخالفة للإسلام، وأنذرهم- إن هم خالفوا أمره- بحلول النكال والعقوبة، وانتهج السلطان محمود في غزنة نهج أمير المؤمنين القادر، واستن بسنته في قتل المخالفين ونفيهم وحبسهم، وأمر بلعنهم على المنابر، وصدر في بغداد كتاب سمي "الاعتقاد القادري" في سنة ٤٣٣ من الهجرة (١٠٤١ من الميلاد) وقرئ في الدواوين، وكتب الفقهاء خطوطهم فيه، وذكروا أن هذا اعتقاد المسلمين وأن من خالفه فقد فسق وكفر، فكان هذا إيذانًا بنهاية هذه الثائرة التي ضلت في غيابتها الأفهام، وكان عمل القادر بالله خاتمة لعمل المأمون من قبل، وقد جاء في هذا المنشور الرسمي "والله هو القادر بقدرة، والعالم بعلم أزلي غير مستفاد، وهو السميع يسمع، والمبصر يبصر، يعرف صفتهما من نفسه، لايبلغ كنههما أحد من خلقه، متكلم بكلام لا بآلة مخلوقة كآلة المخلوقين، لا يوصف إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به نبيه عليه الصلاة والسلام، وكل صفة وصف بها نفسه أو وصفه بها رسوله فهي صفة حقيقية لا مجازية، وإن كلام الله تعالى غير مخلوق، تكلم به تكلمًا، وأنزله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - على لسان جبريل بعد ما سمعه جبريل منه، وتلاه محمّد على أصحابه، وتلاه أصحابه على الأمة، ولم يصر بتلاوة المخلوقين مخلوقًا، لأنه ذلك الكلام بعينه الذي تكلم الله به، فهو غير مخلوق في كل حال متلوًا ومحفوظًا ومكتوبًا ومسموعًا، ومن قال إنه مخلوق على حال من الأحوال فهو كافر حلال الدم بعد
(١) راجع ترجمة علي بن ثابت المعروف بالخطيب البغدادي وما كتبناه حول اعتقاده.