الذي جعل منه زاهدًا ورعًا متقشفًا، وسلوكه هذا لا يعني أنه انحرف مع طرق التصوف الفاسدة والمنحرفة وقتها، بل جعل من طريقه هذا إلى الزهد بالحياة وما فيها، وهذا ما أشار إليه محقق كتاب "سراج الملوك" للطرطوشي إذن ما كان عند أبي بكر الطرطوشي ليس إلا سلوكًا لا يفضي إلى المعتقدات المنحرفة لدى الطرق الصوفية وقتها وبعد الوقت الذي كان فيه ودلالة ذلك أنه قد ألف رسالة في الرد على مزاعم الصوفية في معتقداتهم والتي اسمها "تحريم الغناء واللهو عند الصوفية ورقصهم وسماعهم" وما ذكر من إيراد للشعر ممن سمع منهم في العراق، في وصف الأمم الغابرة لا يؤدي بنا إلى جعله في مصاف زعماء الصوفية وأصحاب الطرق، بل هو ممن يضرب المثل في زوال الدنيا وبقاء العمل الصالح والعبادة الصالحة لله سبحانه، وهذا الذي كان فيه. والله أعلم.
ولم نستطع من خلال مراجعة الكتب التي كتبت في سيرته أو عند مراجعة مؤلفاته أن نعثر على تصريحات تبين معتقد الشيخ إلا أن هناك تلميحات وقرائن تشير إلى أن الشيخ سلك في معتقده مسلك أهل الكلام وأخص بالذكر منهم الأشاعرة، فقد وصف المولى سبحانه في كتابه "سراج الملوك" بألفاظ لم يعتد أهل السنة أن يستعملوها في حق الله حيث قال:
"كما جعل إقرار المقرين بوقوف عقولهم عن الإحاطة بحقيقته إيمانًا لهم، لا يلزمه (لِمَ)، ولا يجاوزه (أين) ولا يلاصقه (حيث)، ولا يحده (ما)، ولا يعده (كم) ولا يحصره (متى) ولا يحيط به (كيف) ولا يناله (أي)، ولا يظلله (فوق) ولا يقله (تحت) ولا يقابله (حدٌّ)، ولا يزاحمه (نِدٌّ) ولا يأخذه (خلف) ولا يحده (أمام)، ولم يظهره (قبل) ولم يغبه (بعد) ولم يجعله (كلٌّ) ولم يوجده (كان) ولم يفقدْهُ (ليس).
وَصْفُهُ لا صفة له، وكونُهُ لا أمدَ له، ولا تخالطه الأشكال والصور، ولا تغيره الأيام والغير، ولا تجوزُ عليه المماسة والمقاربة، وتستحيل عليه المحاذاة والمقابلة، إن قلت: لم كان؟ فقد سبق العلل ذاتُه، ومن كان معلولًا كان له غيره علة يساوقه في الوجود، وهو قبل جميع الأغبار، بل لا علة لأفعاله، فَقُدْرَةُ الله في الأشياء بلا مزاج، وصنعه فيها بلا علاج، وعلة كل شيء صنعه، ولا علة لصنعه، فإن قلت: أين هو؟ فقد سبق المكان وجودُه، فمن أين الأين لم يفتقر وجودُه إلى أين، هو بعد [خلق] المكان غني بنفسه كما كان قبل خلق المكان، وكيف يحلُّ فيما منه بدأ؟ أو يعود إليه ما هو أنشأ؟ " أ. هـ.
ويؤيد ما ذهبنا إليه في معتقده ما قاله الدكتور عبد الرحمن المحمود في كتابه القيم (موقف ابن تيمية من الأشاعرة) حين كلامه على كتاب الغزالي (إحياء علوم الدين) في الهامش ما نصه: "فهناك جمهرة من العلماء المائلين إلى المذهب الأشعري ردوا على الغزالي في كتبه خاصة الإحياء، كما ردوا عليه بسبب ميله إلى الفلاسفة، ومن هؤلاء: ... أَبو بكر الطرطوشي المتوفى سنة (٥٢٠ هـ) حيث كتب رسالة حط فيها من الغزالي وبرر قصة إحراق كتابه ... " أ. هـ.
ويؤيد أيضًا هذا أن المالكية في المغرب العربي في تلك الفترة كانوا على معتقد الأشعرية لانتشاره فيها.