علوم الأحوال، ومرامز الصوفية، وكان غير أنيس بها، ولا خبير بمعرفتها، فسقط على أُمِّ رأسه، فلا في عُلماء المسلمين قرّ، ولا في أحوال الزاهدين استقرّ، ثم شحن كتابه بالكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا أعلم كتابًا على وجه بسيط الأرض أكثر كذبًا على الرسول منه، ثم شبّكه بمذاهب الفلاسفة، ورموز الحلاج، ومعاني رسائل إخوان الصفا، وهم يرون النبوة اكتسابًا، فليس النبيُّ عندهم أكثر من شخص فاضل، تخلَّق بمحاسن الأخلاق، وجانب سفاسفها، وساس نفسه حتى لا تغلبه شهوة، ثم ساق الخلق بتلك الأخلاق، وأنكروا أن يكون الله يبعثُ إلى الخلق رسولًا، وزعموا أن المعجزات حيلٌ ومخاريق، ولقد شرَّف الله الإسلام، وأوضح حُجَجَه، وقطع العذر بالأدلة، وما [مثل] من نصر الإسلام بمذاهب الفلاسفة، والآراء المنطقية، إلا كمن يغسل الثوب بالبول، ثم يسوق الكلام سوقًا يرعدُ فيه ويبرق، ويُمني ويشوّق، حتى إذا تشوقت له النفوس، قال: هذا من علم المعاملة، وما وراءه من علم المكاشفة لا يجوزُ تسطيره في الكتب، ويقول: هذا من سرّ الصدر الذي نهينا عن إفشائه، وهذا فعلُ الباطنية وأهل الدّغل والدّخل في الدين يستقل الموجود ويعلِّق النفوس بالمفقود، وهو تشويش لعقائد القلوب، وتوهين لما عليه كلمة الجماعة، فلئن كان الرجل يعتقد ما سطره، لم يبعد تكفيره، وإن كان لا يعتقده، فما أقرب تضليله.
وأما ما ذكرت من إحراق الكتاب، فلعمري إذا انتشر بين من لا معرفة له بسمومه القاتلة، خيف عليهم أن يعتقدوا إذا صحة ما فيه، فكان تحريقه في معنى ما حرّقته الصحابةُ من صُحف المصاحف التي تُخالف المصحف العُثماني، وذكر تمام الرسالة" أ. هـ.
* قلت: قال محقق "سراج الملوك" للمترجم له: "وفي بغداد أيضًا اتجه أَبو بكر الطرطوشي إلى التصوف، حيث كان الفكر الصوفي متأصلًا على يد أقطابه، وقد درس التصوف هناك ونبغ فيه، حتى عدّه من تحدث عنه من المتصوف الزاهدين، ولا غرابة في ذلك، فإن الحياة التي كان يحياها في بغداد، وما شاهده فيها من زهد، وتقشف العلماء الذين أخذ عنهم، قد أثرت فيه تأثيرًا كبيرًا، فقد كانوا برغم تضلُّعهم في الفقه والعلوم الدينية -من المتصوفة الذين يعتقدون أن الحياة نعيم زائل، وكانوا يفرغون لحياة كلها زهد وتقشّف وعبادة وذِكْر لله، هذا بالإضافة إلى الشعر الذي سمعه من شيوخه العراقيين، ورواه عنهم فيما بعد في "سراج الملوك" يضرب كله المثل بالأمم الغابرة، وما بنت من قصور، وما زيّنت من عمائر، وكيف انتهى كل هذا الزخرف إلى زوال.
ويسلتزم الطرطوشي، منذ يغادر العراق، وفيما يقبل من أيامه، هذه الحياة، حياة الزهد والبعد عن مباهج الدنيا" أ. هـ.
قلت: إن الذي ذكرته كُتب التراجم من لقاء الشيخ أبي بكر الطرطوشي مع بعض المتصوفة المخصوص بالذكر -وكما ذكر ذلك الضبي في بغية الملتمس في قصة تدور حول صحبة الشيخ مع الزاهد العابد عبد الله السائح- هذا الذي كان له الأثر في نهج الطرطوشي للسلوك الصوفي