وإذا كان الفيلسوف هو الإنسان الذي تنشط قوته العقلية باستمرار وهو المهيأ أكثر من غيره لوضع التدبير السليم لنفسه وللآخرين فإن الفيلسوف قد يوجد في ظروف يغلب فيها على أمره. فالفلاسفة - مع الأسف - أقلية في أكثر المجتمعات وكثيرًا ما لا تخرج أفكار الفيلسوف إلى حيّز التطبيق في المجتمع، إلا أنه مع ذلك يستطيع أن يضع لنفسه تدبيرًا خاصًّا به. ومهمته في هذه الحال تنحصر في أن يضع لنفسه تدبيرًا عقلانيًا في مجتمع لا يسوده العقل، أي أن يتخذ موقفًا إيجابيًا في ظروف سلبية، وعلى هذا الأساس ومن أجل الغرض كتب ابن باجة تدبير المتوحد).
ثم قال:(كثيرًا ما يتهم الفلاسفة المسلمون بأنهم نسجوا العناصر الأفلاطونية مع التراث الأرسطاطاليسي في كل موحدٍ، إلا أن تهمة المزج هذه تعتبر في الواقع عملًا رائعًا من أعمال الاقتباس ونقل الأفكار من ثقافة إلى أخرى، إنه ضرب من الترتيب الفلسفي بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة ولولا هذا الضرب من الترتيب الفكري لكان الازدهار الفكري المسيحي في العصور الوسطى أمرًا غير ممكن. وابن باجة دون شك هو أحد أحسن ممثلي الفلاسفة المسلمين الذين أقاموا ترتيبات فلسفية من هذا القبيل، فهو يعلق ويشرح أعمال أرسطو مقتفيًا أثر المنهج الأرسطي، إلا أن روح منهجه هذا هي روح أفلاطونية رغم ظاهرها الأرسطي، فهو دائم البحث عن الذاتيات الحقيقية للموجودات أي مثلها العليا. وأصالة ابن باجة كممثل لجمع الفلسفة الإسلامية بين نظام أرسطو العقلي وتأمل أفلاطون الروحي يمكن أن تلمس من خلال أعمال ابن باجة ولا سيما فلسفته الطبيعية.
فوحدة العقل والمحرك الأول والله، هي حجر الزاوية التي استطاع بواسطتها ابن باجة أن يسد تلك الهوة الكبرى بين فلسفتي أرسطو وأفلاطون وأن يجمع بينهما في كل موحد جديد. فوحدة الموجود الأول سواء قيل له الله أو العقل هي مصدر الكثرة. فالكثرة إذن تنبع أو تخرج من الموحدة كالصدى يتردد بعد الصوت الأول، أو كالدوائر تتكاثر على مركز إلقاء الحجر في ماء المحيط، إلا أن التجزؤ والقسمة غير المتناهية للأشياء أو الأجسام لم تلغ في حال من الأحوال الشكل الهرمي للوجود الواحد الذي يتربع الموجود الأول على أعلى قمته. فالوحدة والكثرة، والوحدة والتنوع، وعدم قسمة المبدأ الأول والقسمة اللانهائية للأشياء والموجودات. والخلود والتناهي، كلها ترتبط بعضها مع بعض في نظام ترابطي هرمي يشمل الجميع. فالكل واحد والواحد هو الكل. هذا هو قانون النظام الذي يحكم رؤية ابن باجة للوجود).
ثم قال: (فإن ابن باجة لم يؤمن بخلود النفس الجزئية ولا بحياة أخرى للأفراد، وهو مع هذا لا يختلف كثيرًا عن الفلاسفة والمفكرين الأرسطيين الذين سبقوه في المشرق العربي الإسلامي قبل ظهوره في المغرب. ولكن وعلى الرغم من تأخر ابن باجة على فلاسفة المشرق المسلمين فهو ربما أول فليسوف استطاع أن يصيغ موقفًا فلسفيًا واضحًا ومتماسكًا موحدًا.