الكلي لا المعنى الجزئي. فهي لا تطلب ماء بعينه وغذاء بعينه، بل تطلب الماء والغذاء، لما فيه من معنى الإرواء والإشباع الكلي. ورابعًا، العقل لا يدرك الموضوع الجزئي ما لم يكن له محمول كلي. وفي إدراك الموضوع الجزئي يحتاج الإنسان إلى قوة الحسّ، ويحتاج في إدراك هذا الإدراك إلى التخيل، لما في الموضوع من ازدواج ناجم عن صلته بالمادة. والحال في العقل على خلاف ذلك، فهو يدرك ويدرك أنه يدرك بقوة واحدة. لذا استحال أن يكون جسمًا أو قوة في جسم، ووجب أن يكون صورة لا في مادة. وأهمية هذه الرسالة أنها تمهّد لما يضعه في رسالة "اتصال العقل بالإنسان وفي "رسالة الوداع" من أن جوهر الإنسان العقل وغايته الاتصال بالعقل الفعّال).
قلت: قد ذكر المحقق ما يعتمد عليه ابن باجة في الأمور إلى وحانية والإلهية والخليقة وغيرها، وتفسيرها على أساس مصادره الثلاث المذكورة آنفًا في فلسفته، ومن نظرتنا لكتبه هذه، وجدنا أن له النزعة الفلسفية المتأثرة بالأقوال السابقة له في هذا المجال من ناحية تعريف الإنسان وخليقته على أساس فلسفي يدخل فيه الانحراف عن المنهج الشرعي وذلك بائن في كتبه هذه. وإليك ما قاله د. معن زيادة في تحقيقه لكتاب (تعبير المتوحد) حيث قال (٢٣):
(والعقل والتعقل يلعبان دورًا رئيسيًا في فلسفة ابن باجة: ليس في كتاب التدبير فقط، بل وفي كتبه الأخرى وخاصة رسالة الوداع واتصال العقل بالاسنان، وسبب هذا الاهتمام بالعقل كون سعادة الإنسان تتوقف عليه، يؤكد ذلك قول ابن باجة:
ولما كانت الأفعال الإنسانية هي الاختيارية كان كل فعل من أفعال هذه القوى يمكن أن يكون للناطقة فيها مدخل. والنظام والترتيب في أفعال الإنسان إنما هو من أجل الناطقة، وهما للناطقة من أجل الغاية، التي جرت العادة أن يقال لها العافية و (السعادة).
هكذا تتوقف سعادة الإنسان على العقل وعلى النظام العقلي الذي يتبعه الإنسان، فالفعل الإنساني لا يكون إنسانيًا إلا إذا استند إلى العقل. لنأخذ على ذلك بعض الأمثلة التي يقدمها أَبو بكر. وأولها مثال أن يكسر الإنسان "حجرًا ضربه أو عودًا خدشه لأنه خدشه فقط، وهذه كلها أفعال بهيمية، فأما من يكسره لئلا يخدش غيره أو عن روية توجب كسره فذلك فعل إنساني".
وثانيها مثال من يأكل شيئًا لتشهيّه إياه. "فاتفق له عن ذلك أن لان بطنه وقد كان محتاجًا إليه، فإن ذلك فعل بهيمي، وهو فعل إنساني بالعرض".
أما من يأكله عن تعقلالا لتشهيه إياه بل لتلين بطنه، واتفق مع ذلك أن كان شهيًا عنده فإن ذلك فعل إنساني وهو بهيمي بالعرض". فإن الفعل لا يكون إنسانيًا إلا إذا كان "المحرك فيه ما يوجد في النفس من رأي أو اعتقادا فالمهم في الفعل الإنساني الاختيار الصادر المرتبط بالفكر، فإنه إن لم تستعمل الفكرة كان ذلك فعلًا بهيميًا، لا شركة للإنسانية فيه من جهة من الجهات.
من الواضح إذن أن ابن باجة يربط الفعل الإنساني بالتعقل من جهة وبالاختيار من جهة أخرى مؤكدًا أن التدبير الإنساني السليم هو تدبير عقلي سواء كان تدبيرًا جماعيًا أم فرديًا.