للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

المخلوقات بالدليل العام على التنزيه وهو مضمون قول القرآن: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} فأهل الإيمان إذا سمعوا أو أطلقوا وصفي "الرحمن الرحيم" لا يفهمون منه حصول ذلك الانفعال الملحوظ في حقيقة الرحمة في متعارف اللغة العربية لسطوع أدلة تنزيه الله تعالى عن الأعراض بل أنه يراد بهذا الوصف في جانب الله تعالى إثبات الغرض الأسمى من حقيقة الرحمة وهو صدور آثار الرحمة من الرفق واللطف والإحسان والإعانة لأن ما عدا ذلك من القيود الملحوظة في مسمى الرحمة في متعارف الناس لا أهمية له لولا أنه لا يمكن بدونه حصول آثاره فيهم، ألا ترى أن المرء قد يرحم أحدًا، ولا يملك له نفعًا لعجز أو نحوه. وقد أشار إلى ما قلناه أبو حامد الغزالي في المقصد الأسنى بقوله: "الذي يريد قضاء حاجة المحتاج ولا يقضيها، فإن كان قادرًا على قضائها لم يسم رحيمًا إذ لو تمت الإرادة لوفى بها وإن كان عاجزًا فقد يسمى رحيمًا باعتبار ما اعتوره من الرحمة والرقة ولكنه ناقص وبهذا تعلم أن إطلاق نحو هذا الوصف على الله تعالى ليس من المتشابه لتبادر المعنى المراد منه لكثرة استعماله وتحقق تنزه الله عن لوازم المعنى المقصود في الوضع مما لا يليق بجلال الله تعالى كما نطلق العليم على الله مع التيقن بتجرد علمه عن الحاجة إلى النظر والاستدلال وسبق الجهل وكما نطلق الحي عليه تعالى مع اليقين بتجرد حياته عن العادة والتكون ونطلق القدرة مع اليقين بتجرد قدرته عن المعالجة والاستعانة. فوصفه تعالى بالرحمن الرحيم من المنقولات الشرعية فقد أثبت القرآن رحمة الله في قوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيءٍ} فهي منقولة من لسان الشرع إلى إرادة الله إيصال الإحسان إلى مخلوقاته في الحياة الدنيا وغالب الأسماء الحسنى من هذا القبيل. وأما المتشابه فهو ما كانت دلالته على المعنى المنزه عنه أقوى وأشد وسيأتي في سورة آل عمران عند قوله تعالى: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} والذي ذهب إليه صاحب الكشاف وكثير من المحققين أن الرحمن صفة مشبهة كغضبان وبذلك مثله في الكشاف. (١)

صفه الغضب:

قال عند قوله تعالى من سورة الفاتحة: {غَيرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} والغضب المتعلِق بالمغضوب عليهم هو غضب الله وحقيقة الغضب المعروف في الناس أنه كيفية تعرض للنفس يتبعها حركة الروح إلى الخارج وثورانها فتطلب الانتقام فالكيفية لطلب الانتقام. وطلب الانتقام سبب لحصول الانتقام والذي يظهر لي أن إرادة الانتقام ليست من لوازم ماهية الغضب بحيث لا تنفك عنه ولكنها قد تكون من آثاره وأن الغضب هو كيفية للنفس تعرض من حصول ما لا يلائمها فتترتب عليه كراهية الفعل المغضوب منه وكراهية فاعله، ويلازمه الإعراض عنه المغضوب عليه ومعاملته بالعنف وبقطع الإحسان، وبالأذى وقد يفضي ذلك إلى طلب الانتقام منه فيختلف الحد الذي يثور عند الغضب في النفس باختلاف مراتب احتمال النفوس للمنافرات واختلاف العادات في اعتبار


(١) تفسير التحرير والتنوير (١/ ١٥٥).