للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

قلت: ومعلوم أن رد العلماء على إمام من الأئمة، لا ينقص من قدره، ولا يعتبر مطعنًا فيه، بل هو أمر طبيعي معروف، جرى عليه العلماء من لدن الصحابة الكرام، إلى يومنا هذا.

ومَن مِن العلماء والأئمة، من لم يرد عليه في المسائل الاجتهادية التي قال بها؟

وقديمًا قال الإمام مالك: "ما منا إلا رَدَّ وَرُدّ عليه، إلا صاحب هذا القبر". يشير بذلك إلى أن كل الأئمة معرضون للرد، حاشا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنه المعصوم، الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.

ثم إن تعداد أسماء جماعة من العلماء، ووصفهم بأنهم ردوا على أبي حنيفة، بدون تعيين المسائل التي ردوا عليه فيها، وبدون معرفة هل كان الحق بجانبهم، أو بجانبه، أمر مبهم لا يفيد سوى قصد التهويل من كثرة الأشخاص الذين ردوا عليه.

ومع ذلك، فإن كانت المسألة مسألة كثرة، فهذا ابن عبد البر يقول في كتابه: "جامع بيان العلم": "الذين رووا عن أبي حنيفة، ووثقوه، وأثنوا عليه، أكثر من الذين تكلموا فيه".

ثم قال: "والذين تكلموا فيه أهل الحديث، أكثر ما عابوا عليه الإغراق في الرأي، والقياس والإرجاء وكان مما يقال: يستدل على نباهة الرجل من المعارضين، بتباين الناس فيه، قالوا: ألا ترى إلى علي بن أبي طالب، هلك فيه فريقان محب مفرط، ومبغض أفرط. وقد جاء في الحديث: أنه يهلك فيه رجلان: محب مُطْرٍ، ومبغض مفتر، وهذا صفة أهل النباهة، ومن بلغ في الدين والفضل الغاية، والله أعلم" (١).

وقد عقد الحافظ ابن عبد البر في كتابه "الانتقاء" بابا في ذكر من أثنى على أبي حنيفة من العلماء وفضله، فقال: "باب ذكر ما انتهى إلينا من ثناء العلماء، على أبي حنيفة، وتفضيلهم له" (٢). ثم أخذ يذكر اسم العالم الذي أثنى عليه، ويتبعه بذكر القول الذي مدحه به، مرويًّا بالسند من ابن عبد البر، إلى قائله، فذكر ستة وعشرين شخصًا من العلماء والأئمة، وهم: أبو جعفر محمّد بن علي بن حسن، وعماد. بن أبي سليمان، ومِسْعَر بن كِدَام، وأيوب السختياني، والأعمش، وشعبة بن الحجاج، وسفيان الثوري، والمغيرة بن مِقْسَم الضبي، والحسن بن صالح بن حي، وسفيان بن عيينة، وسعيد بن أبي عروبة، وحماد بن يزيد، وشريك القاضي، وابن شبرمة، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الله بن المبارك، والقاسم بن معن، وحجر بن عبد الجبار، وزهير بن معاوية، وابن جريج، وعبد الرزاق، والشافعي، ووكيع، وخلد الواسطي، والفضل بن موسى السيناني، وعيسى بن يونس.

وقد استغرقت أقوالهم التي رواها في الثناء على أبي حنيفة حوالي ثلاث عشرة صفحة، من ص (١٢٤ إلى ص ١٣٢).

ثم عقب على ذلك، بذكر بقية العلماء الذين أثنوا عليه، بدون ذكر الأقوال التي قالوها، اختصارًا، فقال: "وممن انتهى ثناؤه على أبي


(١) جامع بيان العلم: (٢/ ١٤٩).
(٢) الانتقاء: (ص ١٢٤).