أن يتأثر الفراء بما في بيئته من التشيع.
هذا إلى جانب أنه كان فارسي الأصل، وبلاد فارس كانت مَرْتعًا للشيعة بوجه عام، وقد كانت مدينة "قم" مركزًا للعصبية الشيعية منذ زمن بعيد. وكذلك نسبه إلى بلاد الديلم التي اعتنق أهلها الإسلام على يد الحسن بن زيد، ثم الحسن الأطروش، وكلاهما زيدي من الشيعة.
وكان الفرّاء كذلك على صلة وثيقة بالمُتَشَيِّعين أمثال أبي الأحوص سلام بن سلم، الذي روى الأحاديث عن إمام من أئمة الشيعة، وهو "جعفر بن محمّد الصادق" وتتلمذ على الكسائي المتشيع.
وكان صديقًا للمأمون الذي كان يفضِّل علي بن أبي طالب على سائر الخلفاء الراشدين.
ولكنه لم يكن مغاليًا في تشيعه، وإنما كان يتسم بالاعتدال أيضًا. فهو يخالف الإمامية التي تعتمد القرآن الكريم على مصحف عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - دون المصحف الذي أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم.
وخالفهم أيضًا في قضية عدم الاعتقاد في الزيادة في القرآن، وخالفهم في تعمدهم إغفال ذكر الصحابة- رضوان الله عليهم، وكان هذا شعارهم حين يتعرضون لصيغة الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيقفون عند ذكر الآل، ولا يذكرون الصحابة، فكان يتعمد ذكر الصحابة اتباعًا للدين الحنيف من جهة، واستجابة لنزعته المعتدلة من جهة أخرى.
والفراء يسوي أيضًا بين الإمام علي وبين غيره من الصحابة، ويعيب قتلة عثمان، ويشبههم باللصوص.
ومن ثم نفهم أن التشيع عند الفراء لم يكن مذهبًا من الغلو والانحراف، وإنما كان موقفًا عاطفيًا، حيث لم يؤثر على البنية الفكرية لمنهجه، فهو معتدل في معظم أحواله، لا يعرف التطرف، وإنما يختار لنفسه موقفًا وسطًا، بل موقفًا حرًّا يختار فيه ما يوافق عقله.
أما عن الفراء والأشاعرة، فيمكن القول بأن الفراء هو رائد مذهب الأشاعرة .. إن لم يكن المؤسس الأول لهذا المذهب، لأنه يتمشى مع طبيعته المعتدلة التي تأخذ بالصواب في قول هذا -وقول ذاك. وذلك أنه كان يتشابه مع أبي الحسن الأشعري في كثير من الصفات مثل التدين والورع، والمعرفة بمذهب أهل السنة والمعتزلة، والرؤية الخاصة في قضيتي (القضاء والقدر، والتشبيه)، والاعتماد على المعقول والمنقول في الشرع. والموقف الوسط، ومن ثم فقد كان مؤسسًا، جنبًا إلى جنب، مع أبي الحسن الأشعري لهذا المذهب المعتدل بين المذاهب المختلفة، حتى ذلك العصر.
هذا هو الفراء بين علماء عصره، ومذاهب عصره. يتفاعل بها تأثرًا وتأثيرًا ويختط لنفسه مذهبًا فريدًا، يميل إلى الاعتدال، والبعد عن المبالغة والتطرُّف، لقد كان نسيج وحده، رحمه الله".
قلت: وهذه بعض المواضع من كتابه (معاني القرآن): وقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}: كل شيء قهر شيئًا فهو مستعل عليه.
وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ} لقبض أرواحهم: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ}: القيامة {أَوْ