يقيدهم بقضاءٍ وقَدَرٍ سابق، بل جعلهم أحرارًا يختارون ما يشاءون، ليكونوا محلًا للثواب والعقاب. وإلا فكيف يتأتّى من الله العادل أن يعاقب شخصًا على ذنب قد فُرِضَ عليه من قبل، وقيده به في كتاب.
والقضية الثانية التي أثارها المعتزلة هي: قضية التشبيه، ويرى المعتزلة ضرورة نفي التشبيه عن الله سبحانه وتعالى، وتأويل كل ما ورد من الآيات التي تشير إلى التشبيه من قريب أو بعيد، في مثل قوله تعالى {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيهِ} فالله لا يشبه المخلوقين في الشعور بالهين والأهون، وقوله:{مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} وقوله: {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} وغير ذلك مما يُشَبِّهُ الله بالمخلوقين في الهيئة والتصرفات.
وكان الفراء على صلة وثيقة بأنصار هذا المذهب كثمامة بن الأشرس والجاحظ، والأخفش المعتزلي، والخليفة المأمون، ذلك الذي كان أكبر نصير للمعتزلة، وعلى يده ذاق العذاب كثير من العلماء الذين أنكروا القول بخلق القرآن بإيعاز من القاضي أحمد بن دؤاد، وإن كان ثمامة بن الأشرس هو الذي أغواه أولًا، ودعاه إلى الاعتزال.
ومن ثم تأثر بفكرهم، ولكنه تأثر الواعي الذي لا يأخذ الأمور على علاتها، بل يمحص، ويبحث ويأخذ منها ما يوافق العقل، ولا يتنافى مع الشرع، فكان يدافع عن الاختيار عند الإنسان، ويرى أنه حر في اختيار أفعاله، وبذلك يكون الحساب يوم القيامة، فليس الله بظلام للعبيد. وكان حينما يتعرض لآية من الآيات المخالفة لحرية الإرادة يتأولها كما يتأولها المعتزلة، حين يتشددون في وجوب تأويل معنى الهداية والإضلال، حيث قالوا في الهداية: إنها على معنى الإرشاد وإبانة الحق، وليس له تعالى من هداية القلوب شيء، وقالوا في الإضلال: إنه بمعنى الإخبار بأنه ضال، أو على معنى جازاه على ضلالته، إلى غير ذلك من التأويلات التي يقتضيها المقام.
وكذلك في مسألة التشبيه، فتراه يذهب أيضًا إلى التأويل، تنزيهًا لله سبحانه وتعالى عن التشبيه بالخلق في الطعام والرزق وأعضاء الجسم وغيرها.
وكان الفراء أيضًا على صلة وثيقة بأهل السنة في ذلك العصر، فهو ينزع منازعهم، وينكر تفسير القرآن بالرأى كما فعل أبو عبيدة في كتابه (مجاز القرآن). ويولي الإجماع -أي إجماع الصحابة- كثيرًا من الإهتمام كمصدر من مصادر التشريع، على حين أنكره كثير من المعتزلة، وعلى رأسهم النظام، ويهتم بالرواية في تفسير المعاني ويحتج بالحديث الشريف، ويعتنق مبدأ الإعجاز اللغوي في القرآن، ويدافع عنه دفاعًا حارًا ضد نزعة فكرية من المعتزلة الذين يرون أن إعجاز القرآن في معانيه وإخباره بالمغيبات.
وكانت للفراء أيضًا صلات وثيقة بالشيعة أسهمت في خلقها ظروف نشأته بالكوفة، وهي بالعراق أهم موطن للشيعة من قديم، وفيها جامع معروف "بمشهد عليّ" وولده الحسين عليهما السلام، وإليه يحج الشيعة. فليس غريبًا