نظر، والصحيح جوازه إن لم ينزله على معينة ونزله على من تحل له من زوجته وجاريته، ومن نزله على أجنبية فهو عاص بهذا التنزيل، ومن هذا حاله ينبغي أن لا يحضر مجلس السماع.
وأما الذي يغلب على قلبه حب الله تعالى يتذكر بسواد الصدغ مثلًا ظلمة الكفر، وبنضارة الخد نور الإيمان, ويذكر الوصال لقاء الله ويذكر الفراق الحجاب عن الله في زمرة المرددين، ويذكر الرقيب المشوش قروح الوصال عوائق الدنيا وآفاتها المشوشة لدوام الأنس بالله، ولا يحتاج في تنزيل ذلك عليه إلى استنباط وتفكر ومهلة، بل تسبق المعاني الغالبة على القلب إلى فهمه مع اللفظ، حتى إن ما فهمه ربما لا يوافق مراد الشاعر.
الرابعة: المستمع، أن يكون شابًّا تكون الشهوة غالبة عليه، فالسماع حرام عليه، وإن لم يكن فيه حب شخص معين.
الخامسة: أن يكون المستمع من العوام، ولم يغلب عليه حب الله فيكون السماع له محبوبًا، ولا غلبت عليه الشهوة فيكون محظورًا، ولكنه أبيح كسائر اللذات المباحة، إلا أنه بالمداومة يصير لهوًا ترد شهادته، وبالإصرار يصير كبيرة، ونظير ذلك اللعب بالشطرنج عند الشافعية؛ لأن مداومته مكروهة كراهة شديده وإن كان أصله مباحًا، إذ كم من مباح يصير إكثاره حرامًا، كالخبز المباح إكثاره حرام بأن يجاوز حد الشبع.
وأما ما ورد من الأخبار والآثار الدالة على حرمة الغناء: فأما لعوارض محرمة كما ذكرناه، أو يحمل على الهرب عن تمتع الدنيا، أو يحمل على حرمة الأوتار، أو على سماعه عند اشتغاله بما هو أولى منه من ذكر الله تعالى، وذكر صفاته وأفعاله وأمثال ذلك.
وأكثر استعمال السلف الغناء في أصوات القيان من الجواري الحسان، ولذلك قال الجنيد: الغناء رقية الزنا ومن أتقن ما ذكرناه من القواعد سهل عليه تأويل أمثال ذلك".
• قلت: ومن أراد التوسع في معرفة منهجه الصوفي والسلوكي فليراجع المجلد الثالث من كتاب (مفتاح السعادة) أيضًا، فإنه يذكر العبادات وبواطنها، وكيف التوصل إلى تلك البواطن والأذكار، وما يوجب فيه وما يقال منه، وغير ذلك مما يوضح المذهب الصوفي لديه وسلوكه فيه ... والله أعلم.
وقال صاحب كتاب "الماتريدية وموقفهم من الأسماء والصفات الألهية" (١) (١/ ٣١٧ - ٣١٨): "كان مع جلالته لامامته في العلوم، صوفيًا خرافيًا، فقد شهد على نفسه بترك صلاتي الظهر والعصر لأجل شطحات التصوف التي أحاطت به، فاستمع إلى ما يقول هو عن نفسه:
اتصلت بالصوفية، وحصل لي من نفائس السلوك، وقد اتفق لي انسلاخ كلي، وفارقت بدني كل المفارقة، فبينا أنا على تلك الحالة إذ دخل وقت صلاة الظهر، فقصدتُ التوضؤ للصلاة، فلم أقدر على تحريك القالب حتى ذهب وقت صلاة الظهر والعصر، وأنا على تلك الحالة ... أ. هـ "نقلًا عن العقد المنظوم ابن لالي
(١) "الماتريدية وموقفهم من الأسماء والصفات الإلهية" للشمس السلفي الأفغاني وأصلها رسالة الماجستير له، ط / الأولى (١٤١٣ هـ) مكتبة الصديق.