التفسير كذلك فمرجعه غزارة العلم، ومرور نظره على كتاب التفسير نظرًا بسيطًا بمدة وجيزة. وحينما ضعف بصره ولم يعد باستطاعته النظر في النقوش المخطوطة والمطبوعة صار يأمرني من حين إلى آخر بعد انقضاء الدرس الخاص بأن أقرأ على مسامعه مقدارًا من تفسير الشربيني الذي يدرسه فيما بعد بحلقته العامة التي كنت أحضرها كل ليلة بين العشائين في الجامع فكنت أجد جميع ما قرأته عليه وهو يسمع يعيده تمامًا ببيان يدخل الآذان بدون استئذان مع زيادة فوائد وفرائد ومواعظ تلائم مقتضى إفهام العوام، بالتوضيح التام، فقدرته قدره، وأخبرته بذلك مجترأ عليه، لكوني من خاصة المقربين من لديه، حتى إنه كان يخصني بأخبار لم يخص بها أقرب النّاس إليه، كما تقتضيه بنوة الروح دون بنوة الجثمان، وقد أجابني بعد عرض تقديري وإعجابي بما معناه "ألم يأن لي يا بني أن أكون كذلك بعد دراسة ستين سنة) ومقصده بذلك هضم نفسه).
وفي (علم التوحيد) كان صباح يومي الجمعة والثلاثاء يدرس لتلاميذه كتب التوحيد وآخرها مقاصد السعد التفتازاني. ومن أكبر أولئك التلامذة عمرًا، وأجلهم قدرًا، وأغزرهم علمًا الشيخ أكرم الأفغاني نزيل دمشق ودفينها، وربما أن نسطر سيرته فيما إذا ساعدت المقادير إن شاء الله تعالى في تذكرتنا التي نذكر في طياتها من لقيناهم من عظماء الرجال. وأوضح برهان على ضلاعة شيخي بالتوحيد ما كان يقرره من مسائله بالتفصيل والتدقيق ونقل آراء أرباب النحل والفرق، وترجيح مذهب أهل السنة ولا سيما الأشاعرة في درس مدرسة السلطان سليمان الذي مرت الإشارة إليه آنفًا لأن سلفه قد وافته المنبة بأثناء كتاب التوحيد من صحيح البخاري، فأتمه الخلف.
وفي (التصوف) قال: "لا أعني بالتصوف أسرار السادة الصوفية الغامضة كوحدة الوجود أو الشهود، والفناء والبقاء والتجليات القدسية ولطائفها الروحية ومراتبها، وما إلى ذلك مما ورد في كتب ابن عربي الحاتمي والجيلي والفاروقي السرهندي وأضرابهم -قدس سرهم- فإن شيخي لم يدع هذه الدعوة، ولم أسمع منه في حياتي أي تصريح من هذا القبيل، كما أنه لم ينل من السادة الصوفية بسوء، بل كان يجلهم ويذكرهم بخير وتعظيم، ويرى أن نكل إليهم شأنهم ولا نخوض بموضوعات لا تدرك إلا بالذوق، وهذا منهج أغلب فقهاء الخلف ولا سيما السادة الشوافع، بل أعني بالتصوف فقه القلوب الذي وفاه حقه المحاسبي في الرعاية والمكي في قوت القلوب والغزالي في الإحياء وهو طب القلوب ومداواة النفوس بالتخلي عن الأخلاق السافلة كالكبر والحسد والحقد والعجب والرياء والحرص والأثرة والتحلي بأضدادها. وهي الأخلاق الفاضلة. وقد أجمع حكماء الشريعة أن عبادات الجوارح الظاهرة إذا لم تبن علي هذه الأسس الباطنة فإنها لا تساوي جناح بعوضة، بل تعود بالمضرة.
ولهذا قال علماء الشريعة إن حديث: إنما الأعمال بالنيات: نصف الدين، وقد كان شيخي -قدس الله ورحه- من فقهاء القلوب المتحلين بالأخلاق الفاضلة، فقد كان مخلصًا،