"من المسائل التي وقع فيها خلاف كثير بين أهل السنة والجماعة وبين المعتزلة مسألة تسمى بمسألة خلق الأفعال. فأهل السنة يروْن أن كل شيء يجري في هذا الكون إنما هو بعلم الله وإرادة الله وقدرة الله، وذلك لا ينافي اختيار الإنسان وهو موضوع سنبسطه في أكثر من مكان. والمعتزلة يقولون بالقوة المودعة، وأن الإنسان يخلق أفعال نفسه الاختيارية. وهو كلام ظاهره براق لأنه يتفق مع النظرة الحسيّة، ولكنه منقوض عقلًا ونقلًا كما سنرى. ومناقشات أهل السنة والجماعة لهم في هذا الموضوع كثيرة، ونادرًا ما تجد سورة من سور القرآن إلا ولأهل السنة حجّة فيها على المعتزلة في هذا الشأن، ومما استدلوا به على المعتزلة من سورة الفاتحة كلمة الحمد لله، فإن الألف واللام للاستغراق، وهذا يفيد أن كل أنواع الحمد لله. وهذا لا يتأتى إلا إذا كان الله هو الفاعل لكل شيء قال ابن كثير: والألف واللام في الحمد لاستغراق جميع أجناس الحمد وصنوفه لله تعالى كما جاء في الحديث" اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله"، واستدلوا من الفاتحة على المعتزلة بقوله تعالى:{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وبقوله تعالى: {اهْدِنَا} فلولا أن الله هو الخالق فكيف يُستعان؟ وكيف تُطلب الهداية منه؟ وهذا موضوع سنرى حيثياثه في أمكنة أخرى".
وقال (١/ ١١٠) في فصل قضايا عقدية وتعقيبًا على ما سبق:
"مر معنا في هذا المقطع قوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} فدل ذلك على أن الله عز وجل هو الذي يخلق الهداية والضلال، على أن ذلك له أسبابه كما رأينا {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} وهذا يؤيد ما اتجه إليه أهل السنة والجماعة في مسألة خلق الأفعال في أنهم يثبتون الأسباب ويسندون الخلق لله، فكل شيء بعلمه جل جلاله وإرادته وقدرته ابتداءً واستمرارًا، ولقد رأينا النقول التي نقلناها بمناسبة قوله تعالى:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} وكيف أن الصحابة اعتبروا من مخلات التوحيد الاعتماد على الأسباب أو نسبة الأفعال إليها دون ملاحظة أن ذلك لم يكن إلا بالله.
وأهل السنة والجماعة يرون أن الإيمان هو التصديق، ويعتبرون العمل بالإسلام علامة كمال، ومن ثم فلا يحكمون بكفر من صدّق إذا أخلّ إلا إذا كان في تصديقه خلل، أو أتى ناقضًا يخل بأصل الإيمان، ومن أدلتهم على ذلك قوله تعالى:{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فالعطف في اللغة العربية يقتضي المغايرة، ومن ثمّ فإن العمل الصالح غير الإيمان.
ولعل أحدًا من الناس يضايقه ذكر مثل هذه المعاني ولهؤلاء نقول: إننا لسنا أمام خيار، فلقد ثارت هذه المسائل في التاريخ وأثيرت وإما أن نقدم للمسلمين اليوم خلاصة التحقيق فيها ليكون عند المسلم مناعة ضد الخطأ، أو نسكت فيقع المسلم في الاتجاهات الخاطئة، ونحيل المسلم على رسالتنا "جولات في الفقهين الكبير والأكبر" ليرى فيها ضرورة ما ذكرنا".