أخرى، فقال: هذا شيء آخر، فأعده علي، فأعاده لا بتينك العبارتين، فقال: ما يمكننا حفظ ما تقول، فأمله علينا، فقال: لو كنت أجريه .. كنت أمليه، فاعترف بفضله وعلو شأنه) (١).
وعن بعض مشايخ الصوفية أنه قال: قال الكعبي من كبار أئمة المعتزلة: رأيت لكم شيخا ببغداد يقال له الجنيد، ما رأت عيني مثله، كان الكتبة يحضرونه لألفاظه، والفلاسفة لرقة كلامه، والشعراء لفصاحته، والمتكلمون لمعانيه، وكلامه ناء عن فهمهم.
وعن الأستاذ أبي القاسم الجنيد أنه قال: دخلت الكوفة في بعض أسفاري، فرأيت دارا لبعض الرؤساء وقد شف عليها النعيم، وعلى بابها عبيد وغلمان، وفي بعض رواشنها جارية تغني وتقول:[من الوافر]
ألا يا دار لا يدخلك حزن ... ولا يعبث بصاحبك الزمان
فنعم الدار أنت لكل ضيف ... إذا ما الضيف أعوزه المكان
قال: ثم مررت بعد مدة؛ فإذا الباب مسود، والجمع مبدد، وقد ظهر عليها كآبة الذل والهوان، وأنشد لسان الحال:[من الكامل]
ذهبت محاسنها وبان شجونها ... فالدهر لا يبقي مكانا سالما
فاستبدلت من أنسها بتوحش ... ومن السرور بها عزاء راغما
قال: فسألت عن خبرها، فقيل لي: مات صاحبها، فآل أمرها إلى ما ترى، فقرعت الباب الذي كان لا يقرع، فكلمتني جارية بكلام ضعيف، فقلت لها: يا جارية؛ أين بهجة هذا المكان وأنواره، وشموسه وأقماره، وقصاده وزواره؟ ! فبكت، ثم قالت: يا شيخ؛ كانوا فيه على سبيل العارية، ثم نقلتهم الأقدار إلى دار القرار، وهذه عادة الدنيا: ترحل من سكن فيها، وتسيء إلى من أحسن إليها، فقلت لها: يا جارية؛ مررت بها في بعض الأعوام وفي هذا الروشن جارية تغني:
ألا يا دار لا يدخلك حزن
فبكت، وقالت: أنا-والله-تلك الجارية، ولم يبق من أهل هذه الدار أحد غيري، فالويل لمن غرته دنياه، فقلت لها: كيف قربك القرار في هذا الموضع الخراب؟ ! فقالت