شبيبته طالبا للعلم، فانتهى إلى العراق، فلقي الإمام أبا حامد الغزالي وطائفة، وحصل فنونا من العلم: الحديث والأصول والكلام.
وكان ورعا ساكنا، ناسكا زاهدا، لا يصحبه من متاع الدنيا إلا عصا وركوة، متقشفا، شجاعا جلدا، عاقلا، كثير الإطراق، بساما في وجوه الناس، عميق الفكر، بعيد الغور، فصيحا مهيبا، مقبلا على العبادة، لذته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد، محتملا للأذى من الناس.
حج وأقام بمكة مدة يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فناله بها شيء من المكروه، فخرج منها إلى مصر، وبالغ في الإنكار، فزادوا في أذاه، وطردته الدولة، وكان إذا خاف من البطش وإيقاع الفعل به .. خلط في كلامه، فينسب إلى الجنون، فخرج من مصر إلى الإسكندرية، ثم توجه منها إلى بلاده، فلما ركب السفينة .. شرع في تغيير المنكر على أهل السفينة، وألزمهم إقامة الصلوات وقراءة أحزاب من القرآن، ولم يزل على ذلك حتى انتهى إلى المهدية إحدى مدن إفريقية في أيام الأمير يحيى بن تميم بن المعز الصنهاجي، وذلك في سنة خمس وخمس مائة، وقيل: في أيام أبيه تميم بن المعز، فنزل بها في مسجد مغلق وهو في الطريق، وجلس في طاق شارع إلى المحجة ينظر إلى المارة، فلا يرى منكرا من آلة الملاهي أو أواني الخمر إلا نزل إليها وكسرها، وتسامع الناس به في البلد، فجاءوا إليه، وقرءوا عليه كتبا من أصول الدين، وبلغ خبره الأمير، فاستدعاه مع جماعة من الفقهاء، فلما رأى سمته وسمع كلامه .. أكرمه وأجله، وسأله الدعاء، فلم يزده على قوله:
أصلحك الله لرعيتك، ثم انتقل إلى بجاية، فأقام بها مدة على حاله في الإنكار، فأخرج منها إلى بعض قراها واسمها: ملاّلة.
ويقال: إن ابن تومرت كان قد اطلع من علوم أهل البيت على كتاب يسمى: «الجفر» - بفتح الجيم، وسكون الفاء، وآخره راء-وسيأتي إيضاح «الجفر» في سنة ثمان وخمسين، وأنه رأى فيه صفة رجل يظهر بالمغرب الأقصى بمكان يسمى: السوس، من ذرية رسول الله صلّى الله عليه وسلم يدعو إلى الله عزّ وجل، ويكون مقامه ومدفنه بموضع من المغرب يسمى: تين ملّ، وسيأتي ضبطه قريبا، ورأى فيه أيضا أن استقامة ذلك الأمر واستيلاءه وتمكنه يكون على يد رجل من أصحابه هجاء اسمه: ع ب د م وم ن، ويجاوز وقته المائة الخامسة للهجرة، فأوقع الله في نفسه أنه القائم بأول الأمر، وأن أوانه قد أزف، فما كان يمر بموضع إلا سأل عنه، ولا يرى أحدا إلا أخذ اسمه وتفقد حليته، وكانت حلية