المجاورين، فلما وصلت الخيل إليهم .. أقبلت عليهم الحجارة من جانبي الوادي مثل المطر، وكان ذلك من أول النهار إلى آخره، فحال بينهم الليل، ورجع العسكر إلى الملك، وأخبروه بما تم لهم، فعلم أنه لا طاقة له بأهل الجبل لتحصنهم، فأعرض عنهم.
وتحقق ابن تومرت ذلك منه، وصفا له مودة أهل الجبل، فعند ذلك استدعى الونشريشي المذكور وقال له: هذا أوان إظهار فضلك دفعة واحدة ليقوم لك مقام المعجزة؛ لنستميل بك قلوب من لا يدخل في الطاعة، ثم اتفقا على أنه يصلي الصبح ويقول بلسان فصيح بعد استعمال العجمة واللكنة في تلك المدة: إني رأيت البارحة في منامي وقد نزل ملكان من السماء وشقا فؤادي وغسلاه وحشياه علما وحكمة وقرآنا، فلما أصبح .. قال ذلك، وهو فصل يطول شرحه، فاتفق أن انقاد له كل صعب القياد، وعجبوا من حاله وحفظه القرآن في النوم، فقال له ابن تومرت: فعجل لنا البشرى في أنفسنا، وعرفنا أسعداء نحن أم أشقياء؟ فقال له: أما أنت .. فإنك المهدي القائم بأمر الله، ومن تبعك .. سعد، ومن خالفك ..
هلك، ثم قال: اعرض علي أصحابك حتى أميز أهل الجنة من أهل النار، وعمل في ذلك حيلة قتل بها من خالف أمر محمد، وأبقى من أطاعه، وشرح ذلك يطول، وكان غرضه ألا يبقى في الجبل مخالف لابن تومرت، فلما قتل من قتل .. علم محمد أن في الباقين من له أهل وأقارب قتلوا، وأنهم لا تطيب قلوبهم بذلك، فجمعهم، وبشرهم بانتقال ملك صاحب مراكش إليهم، واغتنامهم أمواله، فسرهم ذلك وسلاّهم عمن قتل من أهليهم.
وبالجملة: فإن تفصيل هذه الواقعة طويل، وخلاصة الأمر أن محمدا لم يزل حتى جهز جيشا عدد رجاله عشرة آلاف ما بين فارس وراجل، وفيهم عبد المؤمن والونشريسي، فنزل القوم لحصار مراكش، وأقاموا عليها شهرا، ثم كسروا كسرة شنيعة، وقتل الونشريسي في جماعة، وهرب عبد المؤمن في آخرين، وبلغ ابن تومرت الخبر وهو في الجبل، وحضرته الوفاة قبل عود أصحابه إليه، وأوصى من حضر أن يبلغ الغائبين أن النصر لهم، والعاقبة حميدة، فلا تضجروا، وليعاودوا القتال؛ فإن الله سيفتح على أيديهم، والحرب سجال، وإنكم ستقوون ويضعفون، وتكثرون ويقلون، وأنتم في مبدأ أمر، وهم في آخره، ومثل هذه الوصايا وأشباهها، وهي وصية طويلة.
ثم إنه توفي في سنة أربع وعشرين وخمس مائة (١).
(١) في «الكامل في التاريخ» (٨/ ٦٦٠): توفي سنة (٥١٤ هـ)، وفي «تاريخ ابن خلدون» (٦/ ٣٠٥): توفي سنة (٥٢٢ هـ).