وسأل الملك عنهم بعد خروجهم من مجلسه، فقيل: إنهم سافروا، فسره ذلك وقال:
تخلصنا من الإثم بحبسهم.
وتسامع أهل الجبل بوصول ابن تومرت إليهم، وكان قد سار فيهم ذكره، فجاءوه من كل فج عميق، وتبركوا بزيارته، وكل من أتاه .. استدناه، وعرض عليه ما في نفسه من الخروج على الملك، فإن أجابه .. أضافه إلى خواصه، وإن خالفه .. أعرض عنه، وكان يستميل الأحداث وذوي الغباوة، وكان ذوو الحلم والعقل من أهاليهم ينهونهم ويحذرونهم من اتباعه ويخوفونهم من سطوة الملك، فكان لا يتم له مع ذلك حال، وطالت المدة، وخاف محمد ابن تومرت من مفاجأة الأجل قبل بلوغ الأمل، وخشي أن يطرأ على أهل الجبل من جهة الملك ما يحوجهم إلى تسليمه منه، فشرع في إعمال الحيلة فيما يشاركونه فيه ليعصوا على الملك بسببه، فرأى بعض أولاد القوم شقرا زرقا، وألوان آبائهم السمرة والكحل، فسألهم عن سبب ذلك، فلم يجيبوه، فألزمهم الإجابة، فقالوا: نحن رعية هذا الملك، وله علينا خراج، في كل سنة يصعد مماليكه إلينا، وينزلون في بيوتنا، ويخرجوننا عنها، ويستحلون من فيها من النسوان، فتأتي الأولاد على هذه الصفة، وما لنا قدرة على دفع ذلك عنا، فقال ابن تومرت: والله إن الموت خير من هذه الحياة، وكيف رضيتم بهذا وأنتم أضرب خلق الله بالسيف وأطعنهم بالحربة؟ ! فقالوا: بالرغم لا بالرضا، فقال:
أرأيتم لو أن ناصرا نصركم على أعدائكم، ما كنتم تصنعون؟ فقالوا: كنا نقدم أنفسنا بين يديه للموت، قالوا: ومن هو؟ قال: ضيفكم، يعني نفسه، فقالوا: السمع والطاعة، وكانوا يغالون في تعظيمه، فأخذ عليهم العهود والمواثيق، واطمأن قلبه، ثم قال لهم:
استعدوا لحضور هؤلاء بالسلاح، فإذا جاءوكم .. فأجروهم على عوائدهم، وخلوا بينهم وبين النساء، وميلوا عليهم بالخمور، فإذا سكروا .. فآذنوني بهم، فلما حضر المماليك، وفعل معهم أهل الجبل ما أشار به وكان ليلا .. أعلموه بذلك، فأمر بقتلهم بأسرهم، فلم يمض من الليل سوى ساعة حتى أتوا على آخرهم، ولم يفلت منهم سوى مملوك واحد كان خارج المنازل لحاجة، وسمع التكبير عليهم والوقع بهم، فهرب من غير الطريق حتى خلص من الجبل، ولحق بمراكش، وأخبر الملك بما جرى، فندم الملك على فوات ابن تومرت من يده، وعلم أن الحزم كان فيما أشار به مالك بن وهيب، فجهز من وقته خيلا بمقدار ما يسع ذلك الوادي؛ فإنه ضيق المسلك، وعلم ابن تومرت أنه لا بد من عسكر يخرج إليهم، فأمر أهل الجبل بالقعود على أبواب الوادي وبمراصده، واستنجد لهم بعض