للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حق الملك العادل الحليم، المنقاد إلى الحق، المؤثر طاعة الله عزّ وجل على هواه؟ فقال ابن تومرت: أما ما نقل عني .. فقد قلته، ولي من ورائه أقوال، وأما قولك: إنه يؤثر طاعة الله على هواه، وينقاد إلى الحق .. فقد حضر اعتبار صحة هذا القول عنه ليعلم بتعرّيه عن هذه الصفة أنه مغرور بما تقولون له وتطرونه مع علمكم أن الحجّة متوجهة عليه، فهل بلغك يا قاضي أن الخمر يباع جهارا، وأن الخنازير تمشي بين المسلمين، وتؤخذ أموال اليتامى؟ ! وعدّد من ذلك شيئا كثيرا، فلما سمع الملك كلامه .. ذرفت عيناه، وأطرق حياء، ففهم الحاضرون من فحوى كلامه أنه طامع في المملكة لنفسه، ولما رأوا سكوت الملك وانخداعه .. لم يتكلم أحد منهم، فقال مالك بن وهيب وكان كثير الاجتراء على الملك: أيها الملك؛ إن عندي لنصيحة إن قبلتها .. حمدت عاقبتها، وإن تركتها .. لم تأمن غائلتها، فقال الملك: ما هي؟ قال: إني خائف عليك من هذا الرجل، وأرى أنك تعتقله وأصحابه، وتنفق عليهم كل يوم دينارا لتكفى شره، وإن لم تفعل ذلك .. لتنفق عليه خزائنك كلها، ثم لا ينفعك ذلك، فوافقه الملك، فقال وزيره: يقبح بك أن تبكي من موعظة هذا الرجل، ثم تسيء إليه في مجلس واحد، وأن يظهر مثلك الخوف منه مع عظم ملكك، وهو رجل فقير لا يملك سد جوعه، فأخذت الملك عزة النفس، واستهون أمره، وصرفه، وسأله الدعاء.

فيقال: إنه لما خرج من عند الملك .. لم يزل وجهه تلقاء وجهه إلى أن فارقه، فقيل له: نراك تأدبت مع الملك؟ ! فقال: أردت ألا يفارق وجهي الباطل حتى أغيره، ثم قال ابن تومرت لأصحابه: لا مقام لنا مع وجود مالك بن وهيب، فما نأمن أن يعاود الملك في أمرنا، فينالنا منه مكروه، وإن لنا بمدينة أغمات أخا في الله-يعني عبد الحق بن إبراهيم، من فقهاء المصامدة-فنقصد المرور به، فلن نعدم منه رأيا ودعاء صالحا، فخرجوا إليه، ونزلوا عليه، فأخبره ابن تومرت خبرهم، وأطلعه على مقصدهم، وما جرى لهم عند الملك، فقال عبد الحق: هذا الموضع لا يحميكم، وإن أحصن هذه المواضع المجاورة لهذه البلد تين ملّ-بكسر المثناة من فوق، وسكون المثناة من تحت، ثم نون، ثم ميم مفتوحة، ثم لام مشددة-في المكان الفلاني، وبيننا وبين ذلك مسافة يوم في هذا الجبل، فانقطعوا فيه برهة ريثما ينسى ذكركم، فلما سمع محمد بهذا الاسم .. تجدد له ذكر اسم الموضع الذي رآه في كتاب «الجفر»، فقصده مع أصحابه، فلما رآهم أهله على تلك الصورة .. عرفوا أنهم طلاب العلم، فأكرموهم في أكرم منازلهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>