للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان أول من عرف رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد أن أشيع قتله .. كعب بن مالك، قال: رأيت عيناه تزهران تحت المغفر، فقلت: يا معشر المسلمين؛ أبشروا، هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأشار إلى: أن اسكت (١)، فعطف عليه نفر من المسلمين، ونهضوا إلى الشعب.

وقد كان أبي بن خلف يقول للنبي صلّى الله عليه وسلم: عندي فرس أعلفها كل يوم فرقا من ذرة أقتلك عليها (٢)، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: «أنا أقتلك عليها إن شاء الله تعالى»، فلما كان يوم أحد .. شدّ أبيّ بن خلف على فرسه قاصدا النبي صلّى الله عليه وسلم إلى الشّعب وهو يقول: أين محمد؟ لا نجوت إن نجا، فاعترضه رجال من المسلمين، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم هكذا؛ أي: خلوا طريقه، وتناول صلّى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصّمّة، فانتفض بها انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشّعراء عن ظهر البعير إذا انتفض (٣)، ثم استقبله فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مرارا (٤)، ورجع إلى أصحابه وهو يقول: قتلني محمد، وهم يقولون: لا بأس عليك، فقال: لو كان ما بي بجميع الناس لقتلهم، أليس قد قال: «أنا أقتلك»؟ ! والله؛ لو بصق علي .. لقتلني، فمات بسرف (٥).

وطفق نساء المشركين يمثلن بالقتلى من المسلمين بتبقير البطون، وقطع المذاكير، وجدع الآذان والأنوف، لم يحترموا أحدا منهم غير حنظلة الغسيل؛ فإن أباه أبا عامر الراهب -الذي سماه النبي صلّى الله عليه وسلم الفاسق بدل الراهب-كان مع المشركين، فتركوه لذلك.

ولما نظر النبي صلّى الله عليه وسلم إلى ذلك من عمه حمزة .. لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه، وترحم عليه وأثنى وقال: «أما والله؛ لئن ظفّرني الله بهم .. لأمثّلنّ بسبعين منهم مكانك»؛ فأنزل الله تعالى: {وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ}


(١) أخرجه الطبراني في «الأوسط» (١١٠٨)، وابن أبي عاصم في «الجهاد» (٢٥٣)، وابن سعد (٢/ ٤٦)، وغيرهم.
(٢) الفرق-بفتح الفاء والراء، ويجوز إسكان الراء-: مكيال يسع ستة عشر رطلا.
(٣) الشّعراء-بسكون العين المهملة-: ذباب صغير له لذع، يقع على ظهر البعير.
(٤) تدأدأ: تدحرج وسقط.
(٥) أخرجه البيهقي في «الدلائل» (٣/ ٢٣٧)، وأبو نعيم في «الدلائل» (٢/ ٦٢٠)، والطبري في «التاريخ» (٢/ ٥١٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>