أسير معيّنين من جهتهم، ويخرجوا بأنفسهم سالمين، وما معهم من الأموال والأقمشة المختصة بهم وذراريهم ونسائهم، وكتبوا بذلك كتبا، فلما علم السلطان بذلك .. عظم عليه ذلك، وبقي مترددا فيه، فلم يشعر إلا وقد ارتفعت أعلام العدو وصلبانه وناره وشعاره على سور البلد، وصاح الفرنج صيحة واحدة، وعظمت المصيبة على المسلمين، واشتد حزنهم، ووقع فيهم الصياح والعويل.
وذكر بعضهم: أن الفرنج خرجوا من عكا قاصدين أخذ عسقلان، فخاف السلطان أن يستولي الفرنج عليها، وتأخذ بها القدس، فأمر بإخرابها، وسارع في ذلك، وجرت أمور عظيمة، ووصل كتاب من الملك العادل بأن الفرنج تحدثوا معه في الصلح، وطلبوا جميع البلاد الساحلية، فرأى السلطان أن في ذلك مصلحة؛ لما علم في النفوس من الضجر، فكتب إليه بالإذن بذلك وتفويض الأمر إلى رأيه، والتمس بعض أكابر الفرنج الاجتماع بصلاح الدين بعد ما اجتمع بأخيه العادل، فأشار عليه أكابر دولته أن يكون ذلك بعد تمام الصلح، وقال صلاح الدين: متى صالحناهم .. لم نأمن غائلتهم، ولو حدث بي حادث الموت .. ما كانت تجتمع هذه العساكر وتقوى الفرنج، والمصلحة ألا نزول عن الجهاد حتى نخرجهم من الساحل أو نموت، ثم ترددت الرسل بينهم بالصلح، وجرت وقعات كثيرة، ثم وقع الصلح بينهم، وتردد المسلمون إلى بلاد الفرنج، وتردد الفرنج إلى بلاد المسلمين، وحملت البضائع والمتاجر إلى البلدان، وحضر منهم خلق كثير لزيارة القدس، وفسح للعساكر الواردة عليه المنجدة من البلاد البعيدة، وتوجه السلطان إلى القدس، وأخوه العادل إلى الكرك، وابنه الظاهر إلى حلب، وابنه الأفضل إلى دمشق، وأقام السلطان بالقدس يعطي الناس ويقطعهم، ويفسح لهم في التوجه إلى بلدانهم، وتأهب للمسير إلى الديار المصرية.
قال ابن خلكان:(قال شيخنا ابن شداد: وأمرني بالمقام في القدس إلى حين عوده لعمارة مارستان أنشأه وتكميل المدرسة التي أنشأها)(١)
فلما فرغ من افتقاده أحوال القلاع .. دخل دمشق وبها أولاده الكبار: الأفضل والظاهر والظافر، وأولاده الصغار، وجلس للناس يوم الخميس سابع وعشرين شوال من سنة ثمان وثمانين ولم يتخلف عنه الخاص والعام، وأنشده الشعراء، وأقام ينشر جناح عدله، ويهطل