أن أحكمها وضبطها، وقاد بها جيشا هائلا، ومهد لبني العباس بعد أن قتل أمما لا يحصون محاربة وصبرا، فكان حجاج زمانه.
وحج فأمر مناديا في طريق مكة: برئت الذمة من رجل أوقد نارا بعسكر الأمير، فما زال يغدّي الركب ويعشيهم حتى بلغ مكة، وأوقف في المسعى خمس مائة وصيف على رقابهم المناديل يسقون الناس الأشربة من سعى من الحاج بين الصفا والمروة، ولما وصل الحرم ..
نزل وخلع نعله ومشى حافيا تعظيما للحرم.
وبلغه موت السفاح وهو وأبو جعفر في الطريق راجعين من الحج، فجهزه المنصور لمحاربة عمه عبد الله بن علي، وكان قد دعا إلى نفسه، وزعم أن السفاح عهد إليه الأمر، وأقام بذلك شهودا، فالتقى هو وأبو مسلم بنصيبين، فاقتتلا أشد القتال، ثم انهزم عبد الله بن علي إلى البصرة وبها أخوه، وحاز أبو مسلم خزائنه، وكان فيها ما لا يحصى من الأموال والذخائر؛ لأن عبد الله بن علي كان قد استولى على جميع أموال بني أمية وذخائرهم، فكتب المنصور أخو السفاح إلى أبي مسلم: أن احتفظ بما في يدك، فصعب ذلك على أبي مسلم، وعزم على خلع المنصور، وسار إلى خراسان، فلم يزل المنصور يستعطفه ويمنيه حتى وصل إلى بين يديه، وكان قد صدر من أبي مسلم إساءات وقضايا غير ما ذكرناه غيرت قلب المنصور عليه.
منها: كان إذا كتب إلى المنصور .. بدأ بنفسه.
ومنها: أنه خطب إليه عمته آسية، وزعم أنه من ولد سليط بن عبد الله بن عباس، فعزم المنصور على قتله، فقال المنصور لسالم بن قتيبة بن مسلم الباهلي: ما ترى في أبي مسلم؟ فقال:{لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا} فقال: حسبك يا ابن قتيبة، لقد أودعتها أذنا واعية، وكان قد حج أبو مسلم في تلك السنة أيضا، فلما رجع من حجه ..
دخل على المنصور، فرحب به ثم أمره بالانصراف إلى مخيمه، وانتظر المنصور فيه الفرص والغوائل، ثم إن أبا مسلم ركب إليه مرارا وهو يظهر له التحنن، ثم جاءه يوما، فقيل له:
إنه يتوضأ، فقعد له تحت الرواق، ورتب المنصور له جماعة يقفون وراء الستر، ثم إذا عاتبه وضرب يدا على يد .. خرجوا عليه وضربوا عنقه، ثم جلس المنصور وأذن له، فدخل فسلم، فرد المنصور وأمره بالجلوس، وحادثه ثم عاتبه، فقال: فعلت وفعلت يعدد عليه زلاته، فقال أبو مسلم: لي هذا بعد سعيي واجتهادي وما كان مني؟ ! فقال: يا ابن الخبيثة؛ إنما فعلت ذلك بجدنا وحظنا، ولو كان مكانك أمة سوداء .. لعملت عملك،