أطلب؟ ! قال: أنت معن بن زائدة، فقلت: يا هذا؛ اتق الله، وأين أنا من معن؟ ! فقال: دع هذا، فو الله؛ إني لأعرف بك منك، فلما رأيت منه الجد .. قلت: هذا عقد جوهر بأضعاف ما جعله المنصور لمن يأتيه بي، فخذه ولا تكن سببا في سفك دمي، فنظر إلى العقد وقال: صدقت في قيمته، ولست قابله حتى أسألك عن شيء، فإن صدقتني ..
أطلقتك، فقلت: قل، فقال: إن الناس قد وصفوك بالجود؛ فهل وهبت مالك كله قط؟ قلت: لا، قال: فنصفه؟ قلت: لا، قال: فثلثه؟ قلت: لا، حتى بلغ العشر، فاستحييت فقلت: أظن أني قد فعلت ذلك، قال: ما ذاك بعظيم، أنا والله راجل ورزقي من المنصور كل شهر عشرون درهما، وهذا الجوهر قيمته ألف دينار، وقد وهبته لك، ووهبتك نفسك لجودك المأثور بين الناس، ولتعلم أن في الدنيا أجود منك؛ فلا تعجبك نفسك، ولتحتقر بعد هذا كل شيء تفعله، ولا تتوقف عن مكرمة، ثم رمى العقد في حجري، وترك خطام البعير، وولى منصرفا، فقلت له: يا هذا؛ قد والله فضحتني، ولسفك دمي أهون عليّ مما فعلت، فخذ ما دفعته لك، فضحك وقال: أردت أن تكذبني في مقالي هذا، والله؛ لا أخذته، ولا آخذ لمعروف أبدا، ومضى لسبيله، قال: والله؛ لقد طلبته بعد أن أمنت، وبذلت لمن يجيء به ما شاء، فما عرفت له خبرا، وكأن الأرض ابتلعته.
ولي معن اليمن مدة، ثم ولي سجستان في آخر عمره، وله فيها آثار، وقصده الشعراء بها، فبينا هو في داره يحتجم والصناع يعملون له شغلا .. اندس بينهم قوم من الخوارج، فقتلوه وهو يحتجم في سنة إحدى-أو اثنتين أو ثمان-وخمسين ومائة، فتبعهم ابن أخيه يزيد بن مزيد بن زائدة فقتلهم بأسرهم، ورثى معنا الشعراء بأحسن المراثي، ومن ذلك قول مروان بن أبي حفصة:[من الوافر]
مضى لسبيله معن وأبقى ... مكارم لن تبيد ولن تنالا
كأن الشمس يوم أصيب معن ... من الإظلام ملبسة جلالا
هو الجبل الذي كانت نزار ... تهدّ من العدو به الجبالا
تعطلت الثغور لفقد معن ... وقد يروى بها الأسل النهالا
وأظلمت العراق وأورثتنا ... مصيبته المجللة اختلالا
وظل الشام يرجف جانباه ... لركن العزّ حين وهى فمالا