انتقل إلى اليمن مختفيا من الحجاج، فخرج سحرا يريد الانتقال فسمع رجلا ينشد: [من الخفيف]
صبر النفس عند كل ملم ... إن في الصبر حيلة المحتال
لا تضيقن في الأمور فقد تك ... شف غمّاؤها بغير احتيال
ربما تجزع النفوس لأمر ... وله فرجة كحل العقال
فقال له أبو عمرو: وما الأمر؟ قال: مات الحجاج، قال: فلم أدر بأيهما أنا أفرح:
بموت الحجاج، أم بقوله: فرجة؟ أي: بفتح الفاء، وكنا نقول: فرجة من الفرج؛ أي:
بضم الفاء، قال الأصمعي: بالفتح من الفرج، وبالضم: فرجة الحائط.
دخل أبو عمرو على سليمان بن علي عم السفاح، فسأله عن شيء، فصدقه فلم يعجبه، فخرج وهو يقول: [من المتقارب]
أنفت من الذل عند الملوك ... وإن أكرموني وإن قربوا
إذا ما صدقتهم خفتهم ... ويرضون مني بأن أكذب
وكأنه أهمل عمل (أن) هنا على لغة من لا يعملها مع اجتماع شروط العمل فيها؛ حملا على (ما) أو لعلها المخففة من الثقيلة، ولم يأت بالفاصل من السين ونحوها على الوجه الضعيف، وجعله الشيخ اليافعي إقواء (١).
وأخبار أبي عمرو كثيرة، وفضائله شهيرة، ولد بمكة سنة سبعين، أو خمس وستين، أو ثمان وستين.
وتوفي بطريق الشام-وقيل: بالكوفة-سنة أربع وخمسين، ولما حضرته الوفاة .. أفاق من غشيته، فرأى ابنه بشرا يبكي، فقال: وما يبكيك وقد أتت عليّ أربع وثمانون سنة؟ ! ورثاه بعضهم بقوله: [من الطويل]
رزئنا أبا عمرو ولا حي مثله ... فلله ريب الحادثات بمن فجع
فإن تك قد فارقتنا وتركتنا ... ذوي خلة ما في انسداد لها طمع
فقد جرّ نفعا فقدنا لك أننا ... أمنا على كل الرزايا من الجزع
توفي سنة أربع وخمسين ومائة.
(١) انظر كلام اليافعي في «مرآة الجنان» (١/ ٣٢٦).