أَسْلِمْ ... } حيث قال: (ولأهل التفسير في قوله "أسلم" طريقان: أحدهما أنه أراد بقوله (أسلم) ابتداء الإسلام، فقد قال ابن عباس: إنما قال له ذلك حين خرج من السرب فنظر إلى الكوكب والقمر والشمس كما ذكره الله تعالى في سورة الأنعام. وقال أصحاب هذا القول: إن الأنبياء يجوز عليهم قبل الوحي من الشرك والكبائر ما جاز على غيرهم، وإنما عصموا من وقت البعثة وإنزال الوحي، وهذا مذهب جماعة من أهل الأصول.
وقال عدة من المفسرين: فوله "أسلم" معناه: دم واثبت على الإسلام، كقوله تعالى لمحمد - صلى الله عليه وسلم -: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إلا اللَّهُ ... } وكقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا ... } في أحد الوجهين، وعند أصحاب هذا القول: لا يجوز على الأنبياء في سابقة حالهم الشرك والكبائر، بل عصمهم الله سبحانه ودفع عنهم ما لم يدفع عن غيرهم.
فأما (محمد) - صلى الله عليه وسلم -: فعامة أصحابنا على أنه ما كفر بالله طرفة عين ولا كان مشركًا قط، ثم قال بعضهم: كان قبل البعث على دين عيسى، ومنهم من قال: كان يعبد الله على دين إبراهيم).
ثم يضيف الواحدي إلى هذا المبحث مزيدًا من التبيان والتحقيق عند تفسير قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَينَا إِلَيكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} فيقول في نفسيره البسيط:
(قوله {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ} قبل الوحي "ولا الإيمان" اختلفوا في هذا مع إجماع أرباب الأصول على أنه لا يجوز على الرسل قبل الوحي ألا يكونوا مؤمنين، فذهب كثير من أهل العلم إلى أن المراد بالإيمان ها هنا: شرائعه ومعالمه، وهي كل ما يجوز أن يسمى إيمانًا. واختار إمام الأئمة محمّد بن إسحاق بن خزيمة هذا القول وخصه بالصلاة محتجًا بقوله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي صلاتكم. وقيل هذا من باب حذف المضاف، فجعل التقدير: ما الكتاب ولا أهل الإيمان، يعني: من الذي يؤمن ومن الذي لا يؤمن، وهذا اختيار الحسين بن الفضل.
وجعل أبو العالية التقدير: ولا دعوة الإيمان، لأنه كان قبل الوحي ما كان يقدر أن يدعو إلى الإيمان بالله.
وذهب بعض أهل المعاني إلى التخصيص بالوقت، فقال: المعنى: ولا ما الإيمان قبل البلوغ. وهذا المذهب هو اختيار شيخنا أبي إسحاق الإسفراييني رحمه الله، فقد حكى بعض أصحابنا الكبار أنه سأله عن هذه الآية فقال: يعني حين كان في المهد، وقالوا إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - قبل الوحي كان يعبد الله على دين عيسى، والصحيح أنه كان يعبد الله على دين إبراهيم).
لقد عرض الواحدي في النصين السابقين لعصمة الأنبياء والرسل قبل البعثة والوحي وبعدهما، وسلك في عرضها النمط التقريري حيث أورد أقوال العلماء والمتكلمين من أصحابه الأشاعرة، غير أنه يبدو في النص الأخير انضج منه في النص الأول وكثر إيضاحًا، فبينما هو ينسب - في النص الأول - لجماعة من أهل الأصول القول بعدم عصمة الأنبياء قبل البعثة من الشرك والكبائر نجده في النص الثاني ينقل