والعرش ما تعقله العرب وهو السرير، يريد بذلك أيضًا على أنه في السماء عال على عرشه قوله سبحانه:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ}[الملك: ١٦]، وقوله تعالى:{يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}[آل عمران: ٥٥]، وقوله:{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ}[النحل: ٥٠] وقوله: {إِلَيهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}[فاطر: ١٠] وقوله: {يدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيهِ}[السجدة: ٥]".
ثم رد على البلخي وغيره من المعتزلة في تأويلهم الإستواء بالإستيلاء واحتجاجهم بقولهم: استوى بشر على العراق - وغيره - فقال: "فيقال لهم: ما أنكرتم أن يكون عرش الله جسمًا مجسمًا، خلقه وأمر ملائكته بحمله، وتعبدهم بتعظيمه كما خلق في الأرض بيتا وامتحن بني آدم بالطواف حوله وبقصده من الآفاق، ويدل على ذلك قوله تعالى:{وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ}[الزمر: ٧٥]، وقال في موضع آخر:{وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةً}[الحاقة: ١٧]، ففي كل هذا دلالة أن العرش ليس بالملك وأنه سرير)، ثم قال: (ومما يدل على أن الاستواء ها هنا ليس بالإستيلاء أنه لو كان كذلك لم يكن ينبغي أن يخص العرش بالإستيلاء عليه دون ساير خلقه، وليس للعرش مزية على ما [وصفت]، فبان بذلك فساد قوله، ثم يقال له أيضًا: إن الاستواء ليس هو بالإستيلاء في قول العرب: استوى فلان على كذا أي استولى عليه، إذا تمكن منه بعد أن لم يكن متمكنًا، فلما كان الباري سبحانه لا يوصف بالتمكن بعد أن لم يكن متمكنًا لم يصرف معنى الإستواء إلى الإستيلاء.
وحدثنا الشيخ أَبو عبد الله الأزدي الملقب بنفطويه قال: حدثنا أَبو سليمان، قال كنا عند الأعرابي فأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله ما معنى قوله سبحانه: {الْرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه: ٥] قال: إنه مستو على عرشه كما أخبر، فقال له الرجل: إنما معنى استوى استولى فقال له ابن الأعرابي: ما يدريك ما هذا، العرب لا تقول استوى على العرش حتى يكون فيه مضاد له، فأيهما غلب قيل: قد استولى عليه والله سبحانه لا مضاد له، وهو مستو على عرشه كما أخبر، والإستيلاء يكون بعد المغالبة" ثم يقول: "فإن قيل فما تقول في قوله سبحانه: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ}[الملك: ١٦] قيل له معنى ذلك أنه فوق السماء على العرش، كما قال:{فَسِيِحُوا فِي الأَرْضِ}[التوبة: ٢] أي على الأرض ... " وكلامه في ذلك طويل حيث رد على الذين يقولون: إن الله في كل مكان، كما رد على من تأول رفع المسلمين أيديهم إلى السماء عند الدعاء بأن ذلك لأن أرزاقهم في السماء أو لأن الملائكة الحفظة في السماء، فقال: بأن ذلك لو جاز لجاز "أن نخفض أيدينا في الأرض نحو الأرض من أجل أن الله تعالى يحدث فيها النبات والأقوات والمعايش وأنها قرار، ومنها خلقوا وإليها يرجعون، ولأنه يحدث فيها آيات كالزلزلال والرجف والخسف، ولأن الملائكة معهم في الأرض، الذين يكتبون أعمالهم، فإذا لم يجب خفض الأيدي نحو الأرض لما وصفنا لم تكن العلة في رفعها نحو السماء ما وصفه البلخي، كانما أمرنا الله تعالى برفع أيدينا قاصدين إليه برفعهما نحو العرش الذي هو مستو