إن الله سبحانه علق رؤيته على جائز، وهو استقرار الجبل، والمستحيل هو اجتماع الحركة والسكون معًا.
وأما قوله تعالى:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} فإن هناك فرقًا كبيرًا بين الإدراك والرؤية، فالإدراك إحاطة وشمول، والرؤية بخلاف ذلك، فأنت تقول: رأيت السماء ولا تقول: أدركتها، وقال ابن حزم -رحمه الله-: لا حجة لهم في هذه الآية؛ لأن الله تعالى إنما نفى الإدراك، والإدراك عندنا في اللغة معنى زائد على النظر والرؤية، وهو معنى الإحاطة، فالادراك منفى عن الله تعالى على كل حال، في الدنيا والآخرة، برهان ذلك قول الله عز وجل: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَال أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قَال كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: ٦١، ٦٢] ففرق الله عَزَّ وَجَلَّ بين الإدراك والرؤية فرقًا جليًا؛ لأنه تعالى أثبت الرؤية بقوله {) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} وأخبر أنه رأى بعضهم بعضًا، ونفى الإدراك بقوله {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} ولا شك أن ما نفاه الله عز وجل هو غير ما أثبته.
أما قولهم: إن الرؤية تقتضي مكانا وجهة، فذلك في أحوال الدنيا، أما الرؤية يوم القيامة، فهي من أحوال ذلك اليوم التي اختص الله بعلمها وكيفها وأحوالها, ولا نعلم عنها إلا العبارات المثبتة لها من غير كيف، وفوق ذلك فإن قياس رؤية الله على رؤية الأجسام، قياس غير صحيح, لأن قياس الغائب على الشاهد لا يجوز إذا كان الغائب من غير جنس الشاهد.
وقال ابن حزم أيضًا في الرد على هذا: وقد وافقتنا المعتزلة على أنه لا عالم عندنا إلا بضمير، وأنه لا فعال إلا بمعاناة، ولا رحيم إلا برقة قلب، ثم أجمعوا على أن الله تعالى عالم بكل ما يكون بلا ضمير، وأنه عَزَّ وَجَلَّ فعال بلا معاناة، ورحيم بلا رقة، فأي فرق بين تجويزهم ما ذكرنا وبين تجويزهم رؤية بقوة غير القوة المعهودة، لولا الخذلان ومخالفة القرآن والسنة، نعوذ بالله من ذلك.
وقال في قولهم: تنتظر ثواب ربها، إن هذا فاسد جدًّا؛ لأنه لا يقال في اللغة نظرت إلى فلان بمعنى انتظرته. وقال: إن حمل الكلام في الآيات والأحاديث على ظاهره الذي وضع له في اللغة فرض لا يجوز تعديه إلا بنص أو إجماع؛ لأن من فعل ذلك أفسد الحقائق كلها والشرائع كلها والمعقول كله، فإن قال قائل: إن حمل اللفظ على المعهود أولى من حمله على غير المعهود، قيل له: الأولى في ذلك حمل الأمور على معهودها في اللغة ما لم يمنع من ذلك نص أو إجماع أو ضرورة، ولم يأت نص ولا إجماع ولا ضرورة تمنع ما ذكرنا في معنى النظر.
ثم قال: والآية المذكورة والأحاديث الصحاح المأثورة في رؤية الله تعالى يوم القيامة موجبة القبول، لتظاهرها، وتباعد ديار الناقلين لها، ورؤية الله يوم القيامة كرامة للمؤمنين -لا حرمنا الله ذلك بفضله-، ومحال أن تكون هذه الرؤية رؤية القلب؛ لأن جميع العارفين به تعالى يرونه في الدنيا بقلوبهم، وكذلك الكفار في الآخرة".