الثالثة: الرجوع عن هذا والجزم بعدم فناء النار صرح بذلك في (الوابل الصيب).
أما ابن الوزير فقد تأثر بكلام ابن القيم في (الحادي) واستمالته إلى القول بفنائها أحيانا يشم ذلك في كلامه، وفي النهاية تحير فتوقف لأن هذه المسألة في نظره -بعد أن حير عقله كلام ابن القيم- من أشبه المتشابهات، والتوقف عند المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله سبحانه - من مذهب أهل السنة والجماعة، ولابن الوزير مؤلف خاص بهذه المسألة سماه (الإجادة في الإرادة) وقد اقتطفت أبياتا منها في (الغيبيات).
وأما ابن تيمية، وإن شهد أخص تلاميذه بمصنفه المشهور -الذي لم يبين ابن القيم فيه نفيا ولا إثباتا- فلم يصل إلينا شيء من مؤلفاته في هذه المسألة العظيمة، سوى الورقات الثلاث -على فرض صحتها أنها من كلام ابن تيمية- وقل تضمنها كلام ابن القيم في (حادي الأرواح) على سبيل الحكاية لأقوال الناس.
والموجود في فتاواه المعتمدة يناقض ما نسب إليه، لذلك لم أستطع الحكم بإسنادها إليه، لفقدانها الشروط المتبعة في مناهج البحث والتحقيق (١).
ولا يسعني إلا أن أقول كما قال يوسف عليه السلام (معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون).
وقد سبق بيان فتواه بدوام النار، وعدم فنائها كما حكى الإجماع عن سلف الأمة وأئمتها، وسائر أهل السنة والجماعة على ذلك وأن القول بفنائها قول طائفة من أهل الكلام والمبتدعين، كالجهمية ومن وافقهم، وهو قول باطل بخالف الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة فماذا بعد الحق إلا الضلال.
٢٢ - إن دفاع ابن الوزير عن السنة يدل على أنه من أهلها وذبه عن أهل الحديث وأئمة الإسلام يدل أيضًا على أنه منهم، وإلا فما فائدة تلك المعارك الجدلية بينه وبين المعتزلة والزيدية، وأن ذمه للكلام يهدف إلى حدوثه، وعدم الحاجة إليه لا إلى تقبيحه، مطلقا، كما يهدف أيضًا إلى ترك الخوض فيما لا تمس الحاجة إلى معرفته من الكلام، وخاصة التعمق فيما يتعلق بذات الله -عزَّ وجلَّ- وصفاته لما ورد من النهي عن ذلك.
وهذا ما عليه العقلاء الحازمون من الاشتغال بالأهم فالمهم، ولجواز أن ترد شبهة على دقائق الكلام تحير المبرز فيه وتبلد المعجب به، ويكون الناظر فيه كالباحث عن حتفه بظلفه.
وإن المتعرضين للشبهة المجهولة بتقديم النظر في الدلائل، كمن يتعرض للسموم القاتلة بشرب الأدوية الحادة، التي ربما قتلت شاربها حين لا يجد ضدا يدفع طبيعتها، ويستحيل تقديم التداوي من داء لم يتعين ولم يعرف.
وقد أثبت ابن الوزير بالأدلة النقلية الصحيحة الدالة على حيرة فحول المتكلمين ثم حسرتهم ثم
(١) وجدت رسالة شيخ الإسلام طبعت باسم "الرد على من قال بفناء الجنة والنار" ط. دار بلنسية بتحقيق: د. محمد بن عبد الله السمهري.