الإسلامي وتواطأت نفوسهم عليها، وكانوا يكرهون تلك البلبلة التي أحدثتها المذاهب في العراق والشام ويخشون منها، ولذلك كانوا يتشبثون بمذهبهم الأول، بل لا يعتبرونه مذهبًا، وإنما هو الإسلام خالصًا من غير شوائب وبدع. ولا بد أن نذكر أيضًا أن الفاطميين كانوا يبسطون مذهبهم بسطًا بالسيف - في إفريقية خاصة - ولم تكن طرق الدعاية عندهم قائمة على الإقناع المجرد وإنما هي في باطنها دعاية إرهابية. وقد شهد بطشهم في أول دخولهم إلى إفريقية وما أثاروه من فتن وقلاقل وتأليب للقبائل على بعضها، فاقترن أمرهم في نفوس الناس بالظلم والقوة والغشومة، وأنه قام على الجور وأن الجور لن يعمّر، وكان عزاؤهم أن يلوذوا بالصبر وأن يتحلوا بمزيد من الإيمان والتشبث بمعتقدهم السني في مقابل أن يظهروا الطاعة للفاطميين ويقضى الله أمرًا كان مفعولًا، وهذا ما يقتضيه منهم إيمانهم. غير أن غضبهم المكتوم سيولد في نفوسهم نقمة عظيمة عليهم ويعجل بالمناسبة التي تخلصهم منهم، وهذا ما كان.
فإنه ما كاد ينتقل ثقل الدولة الفاطمية إلى مصر حتى انتفضت القيروان على الشيعة سنة (٤٠٧ هـ) تلك الانتفاضة الحاسمة التي غيَّرت مجرى الحوادث.
وكانت تلك الوقعة المشهورة بوقعة المشارقة وفيها صب السُّنيون في القيروان جام غضبهم ونقمتهم على الفاطميين وأتوا على أتباعهم كالسيل العرم.
في هذه الوقعة صنع الشعراء قصائد ملحمية رائعة سجَّلوا فيها انتصارهم الساحق على الشيعة وفرحتهم بإشراق شمس السنة من جديد على ربوعهم، وفي هذه الوقعة ستتجلى لنا حقيقة مذهب أبي عبد الله وما كان عليه.
يحدثنا ابن رشيق أن شيخه قُدمت له جميع القصائد التي صنعها الناس كلهم وجعل يوازن بينها ويأخذ ويترك من أبياتها إلا قصيدة واحدة اختيرت بأجمعها، فكأنَّما كان يختار هذه القصائد لتلقى في حفل أو اجتماع عام، وكأنه نُصّب حكمًا لذلك. وظهور القزاز في هذه المناسبة في مثل المكانة لا يدل على مجرد براعته النقدية وذوقه الفني وإنما لا بد أن يكون وراء ذلك عنصر أساسي فعَّال في الميزان النقدي عنده، نعني به التعاطف مع السنةء وما ينبغي أن يتصدر لهذا الأمر إلا شخص معروف بصدقه في الإيمان بالسنة أيام محنتها وكربها، أو على الأقل فإن المتملقين ومن كان لهم هوى نحو الشيعة لا يجدون الجرأة للظهور في هذه المناسبة بمثل المظهر الذي رأينا فيه القزاز. فهو على هذا كان سنيًا، ولعل محبة العامة له جاءته من هذا الجانب، ولعل أيضًا مهابة الأمراء الفاطميين له جاءت هي الأخرى من هذا الجانب، وليس هذا غريبًا. ذلك لأنه كان يملك لسانه ملكًا شديدًا عن التعرض لما ليس من الدين والعلم، وكان لا يخوض في شيء مما يجلب عليه نقمة السلطة واستنكار العامة. فهو ليس مُصْلِحًا دينيًّا يعبئ طاقات أتباعه بمبادئه ليثيرهم ضد الشيعة، وهو ليس داعيًا من دعاة الفاطميين ليحمل الناس حملًا على مذهبهم وبذلك يوغر صدورهم عليه، وإنما كان لغويًّا نحويًّا أديبًا. فهو قد ارتضى لنفسه طريقًا قلَّما