للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

وقبل زحف الإسلام عليهم لينقض باطلهم.

وحدث أن تفرغوا لصناعة آلات الحرب وبناء الحصون والزراعة، وانشغلوا عن الزراعة فخابت محاصيلهم وجاء وقت الحصاد فلم يجدوا، فقال "فنحاص" وهو واحد من اليهود لماذا قبض الله يده عنا؟ إن يد الله مغلولة، ونلحظ أن الذي قال ذلك هو شخص واحد، ولكن الحق يقول هنا: {وَقَالتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}، ومعنى ذلك أن "فنحاص" عندما قال ذلك سمعوه وسرّهم ما قال، ووافقوه عليها.

أو أنهم حينما شاهدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أول الهجرة وقد آخى بين المهاجرين والأنصار، وكانت تمر على المسلمين الليالي دون طعام فيراهم اليهود فيتندرون على تلك الحال ويقولون: إن يد الله مغلولة عن محمّد وآله.

أو أنهم قالوا: إن يد الله مغلولة في الآخرة عن عقابنا؛ لأنه سيعاقبنا أيامًا معدودة. والذي يبيح لنفسه أن يجعل الله منفعلًا لأحداث خلقه إنما يكفر بالله، لأنه ينزل الله من مكانته، فإذا كانت يد الله مغلولة، فهذا الرباط والغَلُّ والمنع يكون من خلق الله، وكيف يقدر خلق من خلق الله أن يربط يد الله؟ . لقد اجترأوا على مقام الألوهية وهذا من سوء الأدب، تمامًا كما قالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: ١٨١].

وحينما قالوا: "يد الله مغلولة" وردّ الحق عليهم: "بل يداه مبسوطتان" وقال قبلها: "غلت أيديهم" فهل يدعو الحق عليهم؟ طبعًا لا؛ لأنه هو المصدر الذي يتجه إليه الخلق بالدعاء وهو القادر على كل الخلق، ولكن الحق حين روى ما قالوه إنما ينبه الذهن الإيماني الذي يستقبل كلامه أنه ساعة يجد وصفًا لا يناسب الله فعليه أن يدفع هذا الكلام حتى قبل أن يرى الرد عليهم.

{وَقَالتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيدِيهِمْ} وهذا يعلمنا أننا إذا سمعنا وصفًا لا يليق فلا بد أن ندحضه، لأن الحق لا يدعو على عبيده، لأن الدعاء هو أن يرفع عاجز طلبه إلى قادر لينفذ المطلوب له.

إذن فإن قالها الحق فهي إما أن تكون خبرًا، وإما تعليمًا لنا، فإذا كانت خبرًا نلحظ أن الله كتب عليهم البخل ساعة قالوا هذا ومنذ لحظة هذا القول، وإن كان القصد هو تعليمنا، فنحن نتعلم الأدب الإيماني، ونرد أي وصف لا يليق بحلال الله".

ثم قال: "ويتابع سبحانه: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيفَ يَشَاءُ}، وهو يعطي من يريد، وكلمة "اليد" في اللغة تطلق على الجارحة وتطلق على النعمة، فيقول الرجل: إن لفلان عليّ يدًا لا أنساها، أي أنه قدم جميلًا لا يُنسى. واستعملت اليد بهذا المعنى لأن جميع التناولات تكون باليد، وتُطلق اليد ويراد بها الملكية فيقول سبحانه: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} الآية [البقرة: ٢٣٧].

أي الذي يملك أن ينُكح المرأة، وهو الذي يعفو، وفي القتال نجد القول الحكيم: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيدِيكُمْ} الآية [التوبة: ١٤].

أو تطلق اليد على من له ولاية في عمل من الأعمال، لذلك نجد الحق قد قال: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} الآية [ص: ٧٥].