مجرد كلمة ردًّا على سؤال، ولله المثل الأعلى- نجد الإنسان منا حين يرى طفلًا صغيرًا يداعبه ويطيل الكلام معه إيناسًا له، وحين وجد موسى أن الله يكلمه استشرقت نفسه أن يراه:{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَال رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيكَ}[الأعراف: ١٤٣].
لم يقل موسى: أرني ذاتك، بل قال:{أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيكَ} كأنه يعلم أنه بطبيعة تكوينه يعرف أنه لا يمكن أن يرى الله، لكن إن أراه الله، فهذا أمر بمشيئة الحق، وقدم موسى الطلب معلقًا بمشيئة الله وإرادته، لأنه يعلم أنه غير معد لاستقبال رؤية الله، لأن تكوينه لا يقوى على ذلك، وحتى في الوحي والكلام لم يكلم ربنا الناس مباشرة، بل لا بد أن يصطفي من الملائكة رسلًا، ثم تكون مرحلة ثانية أن يصطفي من البشر رسلًا، ويبلغ الرسل الناس كلام الله، لأن الصفات الكمالية العليا الخالقة لا يمكن أن يستوعبها المخلوق".
ثم بعدها قال في الرؤية:
"كذلك الرؤية وسيظهر ذلك لنا حينما يعطي الله الدليل على أنه خلقكم لا على هيئة أن تروه الآن، ولكن حين تبرزون في الآخرة وتعدون إعدادًا آخر، فمن الممكن أن تنالوا شرف رؤيته: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}.
ولا يستوي الناس في ذلك؛ لأن المؤمن هو من ينال شرف النظر إلى الله، أما الكافر فهو محجوب عن رؤية الحق، يقول تعالى في شأن الكفار:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} فلا يستوي المؤمن والكافر في هذه الحالة، فما دام الكافر محجوبًا فالمؤمن غير محجوب ويرى ربه، وقال موسى:{رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيكَ}. قال الحق:{قَال لَن تَرَانِي}.
وفي اللغة نجد أن "لن" تأتي تأبيدية، أي تؤيد المستقبل أي لا يحدث ولا يتحقق ما بعدها. فهل معنى ذلك أن قول الحق:{لَن تَرَانِي} أن موسى لن يرى الله في الدنيا ولا في الآخرة؟ . ونقول: ومن قال إن زمن الآخرة هو زمن الدنيا؟ إن هذه لها زمن وتلك لها زمن آخر:
إذن فزمن الآخرة وإعادة الخلق فيها سيكون أمرًا آخر، يكفي أن أهل الجنة سيأكلون ولن تكون لهم فضلات، إنه خلق جديد. إن مجيء "لن" في قوله الحق: {لَن تَرَانِي} تأبيدها إضافي، أي بالنسبة للدنيا، وفيها تعليل لعدم قدرة موسى على الرؤية، وأضاف سبحانه:{وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا}[الأعراف: ١٤٣].
وسبحانه هنا يعلل لموسى بعملية واقعية فأوضح: لن تراني ولكن حتى أطمئنك أنك مخلوق بصورة لا تمكنك من رؤيتي انظر إلى الجبل، والجبل مفروض فيه الصلابة، والقوة، والثابت، والتماسك؛ فإن استقر مكانه، يمكنك أن تراني إن الجبل بحكم الواقع، وبحكم العقل، وبحكم المنطق أقوى من الإنسان، وأصلب منه وأشد، ولما تجلى ربه للجبل اندك، والدك هو الضغط على شيء من أعلى ليسوى بشيء أسفل منه، والحق هو القائل: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ