المرية، وهو أحد الأعيان، وأركان العلم والبيان شديد العناية بعلوم الأوائل. .. فلما وصلته رسالته تهاون بها، ولم يعرها طرفة، ولا لوى نحوها عطفه، وذكر ابن خاقان بسوء فعله، فجعله ختم كتابه وصيَّره مقطع خطابه.
والثانية: رواية ابن الخطيب عن بعض الشيوخ، قال في الإحاطة: وحدثني بعض الشيوخ أن سبب حقده على ابن باجة ما كان من إزرائه به وتكذبيه إياه في مجلس إقرائه، إذ جعل (أي الفتح) يكر ذكر ما وصله به أمراء الأندلس، ووصف حِلْيا، وكان يبدو من أنفه فضلة خضراء اللون - زعموا - فقال له: فمن تلك الجواهر إذن الزُّمرُدة التي على شاربك، فثلبه في كتابه بها هو معروف.
ويورد الأستاذ علي أدهم هاتين الرواتين ويرجح الأولى بقوله: وأنا أميل إلى ترجيح الرواية الأولى لأنها تتفق مع ما عرف عن أخلاق ابن باجة من الحرص على المال والضَّن به، والفتح في شدة جشعه إلى المال والتماسه بكل الطرق والوسائل، لم يكن يحز في نفسه ويثيره ويحقده مثل حرمانه من العطاء وحبس المال عنه.
وأرى رَأي الأستاذ أدهم في ترجيح الرواية الأولى للتفسير الذي أورد، وقد زاد من هذه العدواة بين الرجلين ما كان يتمتع به ابن باجة من مكانه عالية في الفكر الأندلسي تفوق -بطبيعة الحال- مكانة الفتح بن خاقان، إذ كان الأول فيلسوفًا مفكرًا أديبًا، وكان بالإضافة إلى ذلك مقربًا إلى الملوك، فقد استوزره أَبو بكر بن تيفلويت واستوزره يحيى بن يوسف بالمغرب عشرين سنة وإذا علمنا أن الفتح كان يطمح دائمًا إلى الزعامة، فإنني أرى منزلة ابن الصائغ الفكرية والسياسية كافية لأن يحسده معاصروه ومنهم ابن خاقان وقد أشار القفطي وابن الجوزي إلى أن الأطباء الذين شاركهم ابن باجة صناعتهم حسدوه وقتلوه مسمومًا.
وقد بلغ ابن باجة هَجْوُ الفتح له، فأنفذ إليه مالًا استكفه به واستصلحه، قال في معجم الأدباء:"وصنف ابن خاقان كتابًا آخر سماه: مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ذيل شعراء الأندلس، وصله بقلائد العقيان، وافتتحه بذكر ابن الصائغ وأثنى عليه فيه ثناءً جميلًا، وقد وصف ابن خاقان ابن باجة بصفات جميلة كنزاهة النفس وسعة الاطلاع والدراية بالعلوم العقلية، فقال: "نور فهم ساطع، وبرهان علم لكل حجة قاطع. تتوجت بعصره الأعصار، وتأرّجَت من طيب ذكره الأمصار ... وعطل بالبرهان التقليد، وحقق بعد عدمه الاختراع والتوليد، مع نزاهة النفس وصونها، وبعد الفساد من كونها، والتحقيق الذي هو للإيمان شقيق ... وله أدب يَودُّ عطارد أن يلتحفه، ومذهب يتمنّى المشتري أن يعرفه.
وإذا ما قارنا بين النصين فإننا نستطيع أن نضيف صفة أخرى للفتح قد تتضح في أكثر من موقف هذه الصفة هي التناقض، وهذا أمر طبيعي عند إنسان يحكم على الأشياء منطلقًا من عاطفته ولا يدع لعقله فرصة الحكم عليها، إنسان تبدو المواقف عاملًا أساسيًا في أحكامه، فشتان بين ابن باجة الكافر الذي لا يعترف بباريه ومصوره والذي لم يتطهر من رجس، وابن باجة