هذا الأخير التأويل المذموم ويؤاخذ المتأخرين عليه قائلًا:"إنما لجأ إليه كثير من المتأخرين مبالغة منهم في تنزيه الله تعالى عن مماثلة للمخلوقين كما يزعمون وهذا زعم باطل أوقعهم في مثل ما هربوا منه أو أشد" ويمضي في شرح ذلك.
ويفهم من القول الأخير أن تأويل المتشابه من آيات لا يقتصر على الأباضية والخوارج فقط أو غيرهم من المعتزلة، وإنما هو اتجاه المتأخرين.
وقد تعرضنا لهذه المسألة، فرجوعنا إليها من باب المقارنة ليتجلى اتجاه المفسر في هذه المسألة التي هي أساس تفسير الآيات المتشابهة المتعلقة بمسائل عقائدية مثل إنكار الرؤية، والاستواء على العرش وغيرها، ولا يعني هذا أننا سنتعرض لجميع ما يتميز به المذهب الأباضي من المسائل وإنّما سنكتفي بضرب أمثلة الغرض منها تبيان أسلوب معالجة المفسّر لهذه المسائل ووجهة نظره منها.
فلإثبات نفي رؤية الباري يوم القيامة في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: ٢٢، ٢٣] من سورة القيامة يسوق أدلة لغوية ونقلية وعقلية، ففي البداية يتعرض لصيغة الآية، وللجانب اللغوي فيقول:"قدّم بطريق الاهتمام والحصر، وللفاصلة"، أي شبه الجملة المشتمل على الجار والمجرور {إلى ربها} ثم يشرع في الرد قائلًا: "المتبادر يفيد أنه ليس المعنى تنظر أبصارهم إلى ذاته تعالى، لأنّ مدّعي الرؤية لا يقول ينظر إلى ذاته فقط دائمًا، وإن قيل التقديم ليس للحصر، بقي أن النظر إلى الذات ولو أقل من لحظة موجب للتحيز تعالى الله عنه "ويسوق -بعد ذلك- الأدلة التي تثبت أن النظر هنا قد يفيد معنى الانتظار فيقول:"وناظرة خبر ثان ومعناه منتظرة ومن تعني النظر بمعنى الانتظار إلى قولهم انظر إلى الله ثم إليك أي أنتظر فضل الله ثم فضلك وقول الشاعر:
وجوه ناظرات يوم بدر ... إلى الرحمن يأتي بالفلاح
وقول شاعر:
سبحانه كل الخلائق ينظرون سبحانه ... نظر الجحيم إلى طلوع هلال
وقوله تعالى:{فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيسَرَةٍ}، قال الإمام عليّ: "ناظرة تنتظر حتى يأذن لهم ربهم في دخول الجنة أو إلى بمعنى النّعمة .. أو ثواب ربها أو رحمة ربها" إلى أن يقول: "وكلّ حذف أو تأويل ولو كان خلاف الأصل مقدم على عدمه إذا كان عدمه يؤدي إلى التشبيه أو نحوه والتقدير والتأويل هما المناسبان لقوله تعالى: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} المتفق عليه، ولكونه لا يتحيّز ولا يتجّه، ولا يتجسّم كما هو المتفق، وذلك كله بالذات، وما بالذات لا يتخلف باختلاف الأزمنة ولتنزيهه عن اللّون والطّول والقصر والغلظة والرقّة ورؤيته تنقص هذه الاصول كلّها وتثبت غيبته عن المواضيع الأخر والتجزيء ولزمهم أن الله محسوس لخلقه وينتقل بعد ذلك إلى الحديث عن كلام الله تعالى قائلًا: "وهؤلاء قوم لا يخفى عليهم في بعض الأصول كما قالوا أن موسى سمع كلام الله النّفسي القديم أثبتوا الكلام النفسي وأثبتوا له مسموع مع أنه غير صوت وقد