بعض أساطين النظار الذين تراجعوا عن الاشتغال بالكلام مثل: الإمام أبي محمّد عبد الله الجوني والد إمام الحرمين. فقد نقل في بحثه في الكلام رسالة هذا الرجل العظيم الذي اعترف بما كان عليه سابقًا من حيرة وتساؤلات نفسية كانت تطرحها الفطرة عليه ولا يجد لها جوابًا لأن المشايخ الذين كان يثق بعلمهم ويعظمهم في نفسه كانوا على مذهب أهل الكلام والمذهب الأشعري الذي هو فرع منه ولكن الله هداه وفتح قلبه على النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والآثار السلفية، ولم يكتف الاقتناع بنفسه بل ألف في ذلك رسالة سماها: نصيحة المسلمين قرر فيها مذهب السلف في مسائل الصفات ومنها الكلام بحرف وصوت وأحرج الأشاعرة في إثباتهم لبعض الصفات وتركهم للبعض، فقد ذكر الشيخ رشيد رضا بحثًا طويلًا في تفسيره عند قوله تعالى:{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} فذكر بعض المخترعات العلمية التي يتحير الإنسان في وجودها، وأثبت بها أن الله تبارك وتعالى أقوى وأتدر من أن يتكلم كيف يشاء ومتى شاء زيادة على النصوص المعتمدة في الباب".
ثم قال في صفه المجيء والإتيان:
"قال عند قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ}.
الاستفهام في الآية بمعنى النفي وينظرون بمعنى ينتظرون وهي كثيرة الاستعمال بهذا المعنى في الكتاب العزيز ولا سيما في أمور الآخرة كقوله:{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً}{مَا يَنْظُرُونَ إلا صَيحَةً وَاحِدَةً}.
وإتيان الله تعالى فسره الجلال وآخرون بإتيان أمره أي عذابه كقوله في آية أخرى {هَلْ يَنْظُرُونَ إلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ}.
أي فهو بمعنى ما جاء من التخويف بعذاب الآخرة في الآيات الكثيرة الموافقة لهذه الآيات في أسلوبها، وأقر الأستاذ الإمام الجلال على ذلك وبين في الدرس أن هذا الاستعمال من أساليب العرب المعروفة من حذف المضاف وإسناد الفعل إلى المضاف إليه مجازًا وأوضحه أتم الإيضاح فهو على حد {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} ومن المفسرين من قال أن الإسناد حقيقي وإنما حذف المفعول للعلم به من الوعيد السابق، أي هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بما وعدهم به من الساعة والعذاب وعده آخرون من المتشابهات فقالوا: إن الله تعالى يأتي بذاته ولكن لا كإتيان البشر، بل إتيانه من صفاته التي لا نبحث عن كيفيتها اتباعًا للسلف وأما تأويل الإتيان بما نقله البيهقي عن الأشعري فلا نذكره لأنه مما يزيد المعنى بعدًا عن الفهم وقد يقال أنه ليس من مقتضى مذهب السلف أن يجعل كلما يسند إلى الله تعالى في المتشابهات التي لا تفهم بحال ولا تفسر ولو بإجمال فحسبنا أن نقول على رأي من فسر إتيان الله ها هنا بإتيان أمره وما وعد به من العذاب أو إتيانه بما وعد به.
إننا نفوض إليه تعالى كيفية ذلك وبذلك نكون على طريقة السلف في التفويض مع العلم بأن الله تعالى ينذر الذين زلوا عن صراطه وفرقوا دينه بأمر معروف في الجملة لا بشيء مجهول مطلق، ومما يدلنا على أن المراد بالآية ما ذكرنا