قلبه ضرورة بطلب العلو لا يتلفت يمنة ولا يسرة، فكيف تدفع هذه الضرورة عن أنفسنا، قال: فلطم الإمام رأسه ونزل، وأظنه قال: وبكى وقال: حيرني الهمذاني، وبعضهم تكلف الجواب عن هذا بأن هذا التوجه إلى الفرق، إنَّما هو لكون السماء قبلة الدعاء، كما أن الكعبة قبلة الصَّلاة، ثم هو أيضًا منقوض بوضع الجبهة على الأرض، مع أنَّه سبحانه ليس في جهة الأرض، ولا يخفى أن هذا باطل، أما أولًا: فلأن السماء قبلة الدعاء لم يقل به أحد من سلف الأمة، ولا أنزل الله تعالى به من سلطان، والذي صح أن قبلة الدعاء هي قبلة الصَّلاة، فقد صرحوا بأن يستحب للداعي أن يستقل القبلة، وقد استقبل النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - الكعبة في دعائه في مواطن كثيرة، فمن قال: إن للدعاء قبلة غير قبلة الصَّلاة فقد ابتدع في الدين، وخالف جماعة المسلمين.
وأمَّا ثانيًا: فلأن القبلة ما يستقبله الداعي بوجهه، كما تستقبل الكعبة في الصَّلاة، وما حاذاه الإنسان برأسه أو يديه مثلًا لا يسمى قبلة، فلو كانت السماء قبلة الدعاء، لكان المشروع أن يوجه الداعي وجهه، فما أفسد من نقض! ! فإن واضع الجبهة إنَّما قصده الخضوع لمن فوقه بالذل، لا أن يميل إليه إذ هو تحته، بل هذا لا يخطر في قلب ساجد، نعم سمع عن بشر المريسي أنَّه يقول: سبحان رب الأسفل، تعالى الله سبحانه عما يقول الجاحدون علوًا كبيرًا، وتأول بعضهم كل نص فيه نسبة الفوقية إليه تعالى، بأن فوق فيه بمعنى خير وأفضل، كما يقال الأمير فوق الوزير، والدينار فوق الدرهم، وأنت تعلم أن هذا مما تنفر منه العقول السليمة، وتشمئز منه القلوب الصحيحة فإن قول القائل ابتداء: الله تعالى خير من عباده أو خير من عرشه، من جنس قوله: الثلج بارد: والنَّار حارة، والشمس أضوأ من السَّرَّاج، والسماء أعلى من سقف الدار ونحو ذلك.
وليس في ذلك تمجيد ولا تعظيم لله تعالى، بل هو من أرذل الكلام، فكيف يليق حمل الكلام المجيد عليه، وهو الذي لو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا، على أن في ذلك تنقيصًا لله تعالى شأنه، ففي المثل السائر:
ألم تر أن السيف ينقص قدره ... إذا قيل أن السيف خير من العصا
نعم إذا كان المقام يقتضي ذلك، بأن كان احتجاجًا على مبطل، كما في قول يوسف الصِّديق عليه السَّلام {أَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}[يوسف: ٣٩]، وقوله تعالى:{آللَّهُ خَيرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ}[النمل: ٥٩]{اللَّهُ خَيرٌ وَأَبْقَى}[طه: ٧٣]، فهو أمر لا اعتراض عليه، ولا توجه سهام الطعن إليه، والفوقية معنى الفوقية في الفضل مما يثبتها السلف لله تعالى أيضًا، وهي متحققة ضمن الفوقية المطلقة، وكذا يثبتون فوقية القهر والغلبة، كما يثبتون فيه الذّات، ويؤمنون بجميع ذلك على الوجه اللائق بجلال ذاته وكمال ذاته سبحانه وتعالى. منزهين له سبحانه عما يلزم ذلك مما يستحيل عليه جل شأنه، ولا يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، ولا يعدلون عن الألفاظ الشرعية نفيًا ولا إثباتًا، لئلا يثبتوا فاسدًا أو ينفوا معنى صحيحًا، فهم يثبتون الفوقية كما