أثبتها الله تعالى لنفسه، وأمَّا لفظ الجهة فقد يراد به ما هو موجود وقد يراد به ما هو معدوم، ومن المعلوم أن لا موجود إلَّا الخالق والمخلوق فإذا أريد بالجهة أمر موجود غير الله تعالى كان مخلوقًا، والله تعالى لا يحصره شيء ولا يحيط به شيء من المخلوقات تعالى عن ذلك وإن أريد بالجهة أمر عدمي وهو ما فوق العالم، فليس هناك إلَّا الله تعالى وحده فإذا قيل: إنَّه تعالى في جهة بهذا الاعتبار فهو صحيح عندهم، ومعنى ذلك أنَّه فوق العالم حيث أنهت المخلوقات، ونفات لفظ الجهة الذي يريدون بذلك نفي العلو يذكرون من أدلتهم أن الجهات كلها مخلوقة وأنَّه سبحانه كان قبل الجهة وأنَّه من قال: إنَّه تعالى في جهة يلزمه القول بقدم شيء من العالم وأنَّه جل شأنه كان مستغنيًا عن الجهة ثم صار فيها وهذه الألفاظ ونحوها تنزل على أنَّه سبحانه ليس في شيء من المخلوقات سواء سمى جهة أم لم يسم، وهو كلام حق، ولكن الجهة ليس أمرًا وجوديًا بل هي أمر اعتباري ولا محذور في ذلك وبالجملة يجب تنزيه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين وتفويض علم ما جاء من المتشابهات إليه عز شأنه والإيمان بها على الوجه الذي جاءت عليه، والتأويل القريب إلى الذهن الشائع نظيره في كلام العرب مما لا بأس به عندي على أن بعض الآيات مما أجمع على تأويلها السلف والخلف والله تعالى أعلم بمراده (١).
١٢ - صفة العين: قال عند قوله تعالى: {وَاصنَعِ {الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} والأعين حقيقة في الجارحة، وهي جارية مجرى التمثيل، كان لله سبحانه أعينًا تكلؤه من تعدي الكفرة ومن الزيغ في الصنعة والجمع للمبالغة وقد انسلخ عنه لإضافته على ما قيل: معنى القلة وأريد به الكثرة وحينئذ يقوى أمر المبالغة وزعم بعضهم: أن الأعين بمعنى الرقباء وأن في ذلك ما هو من أبلغ أنواع التجريد، وذلك أنهم ينتزعون من نفس الشيء آخر مثله في صفته مبالغة بكمالها كما أنشد أبو علي:
أفات بنو مروان ظلمًا دماءنا ... وفي الله إن لم يعدلوا حكم عدل
وقد جردوا ها هنا من ذات المهيمن جماعة الرقباء وهو سبحانه الرقيب نفسه وقيل: إن ملابسة العين كناية عن الحفظ، وملابسة الأعين لمكان الجمع كناية عن كمال الحفظ والمبالغة فيه، ونظير ذلك بسط اليد وبسط اليدين فإن الأوَّل كناية عن الجود، والثَّاني عن المبالغة فيه، وجوز أن يكون المراد الحفظ الكامل على طريقة المجاز المرسل لما أن الحفظ من لوازم الجارحة وقيل: المراد من أعيننا ملائكتنا الذين جعلناهم عيونًا على مواضع حفظك ومعونتك والجمع حينئذ على حقيقته لا للمبالغة ويفهم من صنيع بعضهم أن هذا من المتشابه، والكلام فيه شهير، ففي الدر المنثور عند الكلام على هذه الآية أخرج البيهقي عن سفيان بن عيينة قال: ما وصف الله تبارك وتعالى نفسه في كتابه فقراءته تفسيره، ليس لأحد