ومن كل ما تقدم تظهر لنا قوة مكي في النظر والاحتجاج، ودقته في الفهم، والاستنباط، واعتداده بالعربية وتعمقه في إدراك لطائفها وأسرارها، واستخدامه ذلك كله في النظر السليم الذي يؤدي إلى الفهم الدقيق والتفسير الصحيح) أ. هـ.
قلت: وبعد أن ذكر ما قاله الدكتور فرحات، نختم البحث بقول شيخ الإسلام ابن تيمية، قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى عند كلامه حول نزول الله سبحانه وتعالى وقوله:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَار}: (وقد قال تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَار} قال ابن أبي حَاتِم في "تفسيره": حدثنا أبو زرعة، ثنا منجاب بن الحارث، ثنا بشر بن عمارة عن أبي روق، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله سبحانه وتعالى:{وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَار} قال: "لو أن الجن والإنس، والشياطين والملائكة، منذ خلقوا إلى أن فنوا صفّوا صفًّا واحدا ما أحاطوا بالله أبدا"- فمن هذه عظمته، كيف يحصره مخلوق من المخلوقات، سماء أو غير سماء! ؟ حتى يفال: إنه إذا أنزل إلى السماء الدنيا صار العرش فوقه. أو يصير شيء من المخلوقات يحصره ويحيط به سبحانه وتعالى.
فإذا قال القائل: هو قادر على ما يشاء؟ قيل: فقل: هو قادر على أن ينزل سبحانه وتعالى وهو فوق عرشه، وإذا استدللت بمطلق القدرة والعظمة من غير تمييز، فما كان أبلغ في القدرة والعظمة، فهو أولى بأن يوصف به مما ليس كذلك؛ فإن من توهم العظيم الذي لا أعظم منه يقدر على أن يصغر حتى يحيط به مخلوقه الصغير، وجعل هذا من باب القدرة والعظمة، فقوله: إنه ينزل مع بقاء عظمته وعلوه على العرش، أبلغ في القدرة والعظمة، وهو الذي فيه موافقة الشرع والعقل.
وهذا كما قد يقوله طائفة "منهم أبو طالب المكي، قال: إن شاء وسعه أدنى شيء، وإن شاء لم يسعه شيء وإن أراد عرفه كل شيء، وإن لم يرد لم يعرفه شيء، إن أحب وجد عند كل شيء، وإن لم يحب لم يوجد عند شيء، وقد جاوز الحد والمعيار، وسبق القيل والأقدار. ذو صفات لا تحصى، وقدر لا يتناهى، ليس محبوسًا في سورة، ولا موقوفًا بصفة، ولا محكومًا عليه بكلم، ولا يتجلى بوصف مرتين، ولا يظهر في صورة لاثنين، ولا يرد منه بمعنى واحد كلمتان، بل لكل تجل منه صورة، ولكل عبد عند ظهوره صفة، وعن كل نظرة كلام، وبكل كلمة إفهام، ولا نهاية لتجليه، ولا غاية لأوصافه.
قلت -أي شيخ الإسلام-: أبو طالب رحمه الله هو وأصحابه (السالمية) -أتباع الشيخ أبي الحسن بن سالم صاحب سهل بن عبد الله التستري- لهم من المعرفة والعبادة والزهد واتباع السنة والجماعة في عامة المسائل المشهورة لأهل السنة ما هم معروفون به، وهم منتسبون إلى إمامين عظيمين في السنة: الإمام أحمد بن حنبل، وسهل بن عبد الله التستري، ومنهم من تفقه على مذهب مالك بن أنس كبيت الشيخ أبي محمد وغيرهم، وفيهم من هو على مذهب الشافعي.