عابوا الإغراق في الرأي والقياس.
قال: وكان يقال: يستدل على نباهة الرجل من الماضين، بتباين الناس فيه.
قالوا: ألا ترى إلى علي بن أبي طالب، أنه هلك فيه فئتان، محب أفرط، ومبغض أفرط، وقد جاء في الحديث: (إنه يهلك فيه رجلان، مُحِبٌّ مُطْرٍ، ومُبْغِضٌ مفتر).
قال: وهذه صفة أهل النباهة، ومن بلغ في الفضل والدين الغاية.
قال ابن عبد البر: قال أبو داود السجستاني: إن أبا حنيفة كان إمامًا، وإن مالكًا كان إمامًا، وإن الشافعي كان إمامًا، وكلام الأئمة بعضهم في بعض يجب ألا يُلتفت إليه، ولا يعرج عليه، في من صحت إمامته وعظمت في العلم غايته.
ولقد أكثر ابن عبد البر في تصانيفه، ولا سيما في هذا الكتاب، النقل عن الأئمة بثنائهم على الإمام أبي حنيفة. وكذا غيره من الأئمة المعتبرين من أهل الحديث والفقه.
قال ابن عبد البر: أبو حنيفة أقْعد الناس بحماد بن أبي سليمان.
اعلم أن الإمام أبا حنيفة قد قُبِلَ قولُه في الجَرْح والتعديل، وتلقوه عنه علماء هذا الفن وعملوا به، كتلقيهم عن الإمام أحمد والبخاري وابن معين وابن المديني، وغيرهم من شيوخ الصنعة، وهذا يَدُلُّك على عظمته وشأنه، وسعة علمه وسيادته.
فمن ذلك ما رواه الترمذي في كتاب العلل من "الجامع الكبير": حدثنا محمود بن غيلان، عن وهب بن جرير، عن أبي يحيى الحِمَّاني: سمعت أبا حنيفة يقول: ما رأيت أكذب من جابر الجُعْفِيّ، ولا أفضل من عطاء بن أبي رباح.
وروينا في "المدخل لمعرفة دلائل النبوة" للبيهقي الحافظ، بسنده، عن عبد الحميد الحماني، سمعت أبا سعد الصنعاني، وقام إلى أبي حنيفة، فقال: يا أبا حنيفة، ما تقول في الأخذ عن الثوري؟ فقال: اكتب عنه، فإنه ثقة، ما خلا أحاديث أبي إسحاق عن الحارث، وحديث جابر الجُعْفِيّ.
وقال أبو حنيفة: طَلْقُ بن حبيب كان يرى القَدَر.
وقال أبو حنيفة: زيد بن عياش ضعيف.
وقال سُوَيد بن سعيد: عن سفيان بن عيينة، قال أول من أقعدني للحديث أبو حنيفة، قدمت الكوفة، فقال أبو حنيفة: إن هذا أعلم بحديث عمرو بن دينار. فاجتمعوا عليَّ فحدثثهم".
ثم قال: "وقال أبو حنيفة: لعن الله عمرو بن عبيد، فإنه فتح للناس بابا إلى علم الكلام.
وقال أبو حنيفة: قاتل الله جهم بن صفوان، ومقاتل بن سليمان، هذا أفرط في النفي، وهذا أفرط في التشبيه.
قال الطحاوي: حدثنا سليمان بن شعيب، حدثنا أبي، قال: أمْلَى علينا أبو يوسف، قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي للرجل أن يحدث من الحديث إلا ما حفظه من يوم سمعه إلى يوم يحدث به.
قلت: سمعت شيخنا العلامة الحجة زين الدين بن الكتناني، في درس الحديث بالقبة المنصورية، وكان أحد سلاطين العلماء، ينصر هذا القول، وسمعته يقول في هذا المجلس: لا يحل لي أن أروي إلا قوله - عليه السلام -: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب" فإني حفظته من حين سمعته إلى الآن.