أولًا: لأن كلمة "ليس بالقوي" ليس معناها ضعيف، وإنما هي إشارة إلى وجود أشياء عنده، وإذا قبلنا قول النسائي هذا ليس معناه أنه ضعيف ولكننا في الحقيقة لا نقبله لأنه لم يفسر هذا الجرح -إن اعتبرناه جرحًا- وقد تقدم توثيق العلماء له وثناؤهم على حفظه.
ثانيًا: لأن الجرح إذا لم يكن مفسرًا لا يقبل حتى من إمام معاصر إذا عرف وجود تنافس بين الأقران، ومعلوم أن التنافس بين المحدثين وأهل الرأي كان على أشده.
ثالثًا: إذا تعارض الجرح الذي لم يفسر مع التعديل المفسر وكان المعدل عارفًا بما قيل فيه فلا شك أننا تقدم التعديل على التجريح دون تردد.
وهذا أمر يسري على كل التجريح الذي ذكرناه والذي سنذكره.
رابعًا: قول ابن حبان:
قال ابن حبان: "حدثنا زكريا بن يحيى الساجي بالبصرة قال: حدثنا بندار ومحمد بن علي المقدمي قال: حدثنا معاذ بن معاذ العنبري قال: سمعت سفيان الثوري يقول: استتيب أبو حنيفة من الكفر مرتين (١).
وهذا نص إذا نظر الخبير فيه قال: ليس بعد هذا كلام فهو منقول عن إمام جليل بسند كلهم ثقات. ولكن الأمر ليس على وجهه فهو غير مقبول من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: في الخبر إبهام وإيهام أما الإبهام فإن ابن حبان أو الثوري لم يذكرا من الذي استتاب أبا حنيفة من الكفر وهذه مسؤولية ابن حبان لأنه تبنى تضعيف أبي حنيفة وأصر على ذكر روايات تصل به إلى حد الكفر، ولكنه كان أذكى من الخطيب وأكثر دربة منه على إلقاء الأسانيد والإيقاع بالخصوم وأما الثوري فالمسؤولية تقع عليه إن صح السند إليه، وإن كنت أميل إلى ما مال ابن عبد البر الذي سأنقل كلامه قريبًا.
وأما الإيهام فإن ابن حبان ذكر إسنادًا رجاله ثقات، ثم ذكر الأمر مبهما دون تعقيب أو توضيح ليوهم القارئ أن أبا حنيفة كفر واستتيب من الكفر مرتين.
ثالثًا: الوهم وقع من ابن حبان في القضية المثارة حيث عمى عليه التصحيف أو تعامى عنه أو لم يشأ أن يرده إلى أصله لحاجة في نفس يعقوب وهي ليست خافية على المطلع على ما بين المحدثين وأصحاب الرأي.
ونحن لا يجوز لنا أن نرد على مثل هؤلاء الثقات وإنما يرد عليهم من هو مثلهم أو فوقهم، ولذا يروى لنا ابن عبد البر في الانتقاء قال: قيل لعبد الله بن داود الخريبي يومًا: يا أبا عبد الرحمن إن معاذًا يروي عن سفيان الثوري أنه قال: استتيب أبو حنيفة من الكفر مرتين؟ ؟ فقال عبد الله بن داود: هذا والله كذب، قد كان والله بالكوفة علي والحسن ابنا صالح بن حي -وهما من الورع بالمكان الذي لم يكن مثله- وأبو حنبفة يفتي بحضرتهما, ولو كان من هذا شيء ما رضيا به،