للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وقد كنت بالكوفة دهرًا فما سمعت بهذا (١).

أقول فجزى الله الخريبي عنا وعن أبي حنيفة خيرًا فقد كفانا مؤونة الرد على مثل هؤلاء (٢).

وأما قضية الاستتابة هذه وحقيقتها فإن الكرماني يوضحها تمامًا ويزيل كل غموض فيها فيقول: عن الإمام أبي بكر عتيق بن داود اليماني أن الخوارج لما ظهروا على الكوفة أخذوا أبا حنيفة فقيل لهم: هذا شيخهم -والخوارج يعتقدون كفر من خالفهم- فقالوا: تب يا شيخ من الكفر، فقال: أنا تائب إلى الله من كل كفر، فخلَّوا عنه، فلما ولى قيل لهم: إنه تاب من الكفر وإنما يعني ما أنتم عليه، فردوه، فقال رأسهم: يا شيخ إنما تبت من الكفر وتعني به ما نحن عليه فقال أبو حنيفة: أبظن تقول هذا أم بعلم؟ فقال: بل بظن، فقال أبو حنيفة: إن الله يقول: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (٣) وهذه خطيئة منك، وكل خطيئة عندك كفر فتب أولًا أنت من الكفر، فقال: صدقت أنا تائب من السفر، فتب أنت أيضًا من الكفر، فقال أبو حنيفة رحمه الله: أنا تائب إلى الله من الكفر.

هكذا كان يجب على من يدعي الأمانة والاستيثاق ألا ينقل إلا ما يتأكد منه، ولا يلقى الكلام على عواهنه فكل مسجل علينا.

وليس هذا انتقاصًا للعلماء الذين رووا هذا وإنما هذا تنبيه لكل من يريد نبش ما دفنه أسلافنا من تطاحن في الآراء وشدة تعصب للمذاهب فما صدقنا أن مثل هذا يدفن وينسى، ولكننا ما لبثنا أن رأينا كثيرًا من الناس من يصدق هذا الكلام وما أن يلتقط واحدة من هذه الهفوات حتى يرفعها على الملأ، ويذيعها بين الجاهلين وهو جاهل فيصدق كلامه ويسري ذلك بين الجهلة كما تسري النار في الهشيم، يظنون بفعلهم هذا خيرًا ولكنهم كما قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (١٠٤) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} وصدق الله العظيم، ومن لم يكن له وزن في الآخرة فلا وزن له في الدنيا.

قال ابن حبان: "أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى بالموصل قال حدثنا أبو مشيط محمّد بن هارون قال حدثنا محبوب بن موسى عن يوسف بن أسباط قال: قال أبو حنيفة: لو أدركني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأخذ بكثير من قولي، وهل الدين إلا الرأي الحسن" (٤).

وهذا كلام مرفوض سندًا ومتنًا وموضوعًا.

أما من ناحية السند فيوسف بن أسباط كان يغلط في الحديث كثيرًا كما قال الخطيب، وقال البخاري: لا يجيء بحديثه كما ينبغي، كما ضعفه العقيلي وابن عدي والذهبي وابن الجوزي (٥).


(١) الانتقاء: (ص ١٥٠).
(٢) والخريبي هذا تقدم ثناؤه عن الإمام أبي حنيفة وأنه كان يوثقه ويخشى من الله أن يقع في عالم حيث إن الأئمة يعرفون أن لحوم العلماء مسمومة.
(٣) الآية (١٢) من سورة الحجرات.
(٤) المجروحين (٣/ ٦٥٠).
(٥) التاريخ الكبير للبخاري (٥/ ٣٨٥)، والضعفاء =