للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

لكن العلماء يقولون: إن المشهور عن أبي يوسف خلاف هذا حيث إن المشهور عنه أنه لما حج قال: اللهم إنك تعلم أنني لم أعمل إلا بما عرفته من كتابك وسنة نبيك، وما لم أعرفه منهما جعلت بيني وبينك أبا حنيفة لعلمي به، كما روى عنه أنه قال هذا عند الموت، فمن يكون هذا قوله أما يكون قد قلده في دينه (١).

أخيرًا وبعد عرض الاتهامات والرد عليها سندًا ومتنًا نجدها قد تلاشت ولم يصمد منها شيء أمام البحث والتمحيص ويبقى الإمام أبو حنيفة جبلًا راسخًا لا تزعزعه العواصف ولا تنال منه المعاول وما مثله إلا كما قال الشاعر:

كناطح صخرة يوما ليوهنها ... فما وهنها وأوهى قرنه الوعل

أو كما قال الشاعر:

يا ناطح الجبل العالي ليكلمه ... أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل).

ثم لخص القول في توثيق أبي حنيفة قائلًا:

(بعد أن ذكرنا فيما تقدم أقوال المجرحين والمعدلين، ورأينا أن الذين جرحوا أبا حنيفة إما متعصب أو حاسد وأن الذين عدلوه أئمة كبار في هذا الشأن، وهم عالمون كما قيل في أبي حنيفة من جرح ولا شك هم عالمون ومطلعون على نوع الجرح الذي فاه به أولئك، فلم يعتبره جرحًا ولم يكترثوا له.

والدليل على ذلك أن الإِمام يحيى بن معين لما عدله قال: "هو ثقة لا أعلم أحدًا جرحه" (٢).

فابن معين وهو من هو في إمامته وعلمه هل يخفى عليه ما قاله هؤلاء الطاعنون في أبي حنيفة؟ كلا إنه يعلم علم اليقين ما قاله أقرانه المحدثون وما قاله خصومه من المذاهب الأخرى ولكن العلماء يعلمون تمامًا أن مثل هذا الجرح لا يؤثر ولا يغض من مقام أبي حنيفة لا في الحديث ولا في الفقه ولا في القياس، بل هو إمام في الحديث، إمام في الفقه والقياس لا يشق له غبار وإنما قال فيه من قال, لأنهم لم يبلغوا شأوه. ولم يترك لهم حجة فحسدوه والبشر لا يخلو من حسد، وقد تمثل كل من دافع عن أبي حنيفة -حتى من الشافعية كابن السبكي والسيوطي أو من المالكية كابن عبد البر- يقول الشاعر:

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالكل أعداء له وخصوم

أخيرًا بعد أن تهاوت تلك الأقوال وسقطت تلك الطعون في مجاري الغفران والتسامح فالقول الفصل الذي لا محيد عنه ولا يجوز القول بغيره أن أبا حنيفة ثقة إمام في الحديث والفقه والأصول وعلوم القرآن حيث إنه ما دمنا سلمنا لأبي حنيفة في الفقه وألقينا إليه لواء الإمامة فهذا معناه تسليم له بالإمامة في الحديث وعلوم القرآن لأن الفقه لا يصدر إلا عن كتاب أو سنة أو إجماع والقياس لا يقاس إلا على كتاب أو سنة أو إجماع وهذا هو المعمول به في علم الأصول.


(١) الرد على الخطيب (٦٣).
(٢) رواه بهذا عنه في الرد على الخطيب: (ص ٣٧)، والجواهر المضيئة (١/ ٣٠).