للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

إذن فهل الذين جرحوا أبا حنيفة أخطأوا وهل يجوز للعلماء أن يذنبوا مثل هذا الذنب؟ أقول: كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، إلا أنه قد تقدم معنا أن معظم ما نقلوه باطل لا يصح إسناده وما بقي من شيء يسير فقد رجع عنه أصحابه أو صدر منهم خلاف ما نقل عنهم، فأكثر ما يعتد من تلك الأقوال تجريح سفيان الثوري وابن عيينة، وهؤلاء صدر منهم في آخر حياتهم ما يفيد الرجوع عن كل ما قالوه فالعلماء هم أولى الناس بالرجوع إلى الحق، والخطيب نفسه يورد لنا ما يفيد من رجوع سفيان عن قوله حيث يقول:

"أخبرنا الصيمري قال قرأنا على الحسين بن عارون عن ابن سعيد قال حدثنا عبد الله بن إبراهيم بن قتيبة حدثنا ابن نمير حدثني إبراهيم بن البصير عن إسماعيل بن حماد عن أبي بكر بن عياش قال: مات سعيد أخو سفيان فأتينا نعزيه فإذا المجلس غاص بأهله وفيهم عبد الله بن إدريس إذ أقبل أبو حنيفة في جماعة معه، فلما رآه سفيان من مجلسه ثم قام فاعتنقه وأجلسه في موضعه وقعد بين يديه، قال أبو بكر: فاغتظت عليه، وقال ابن إدريس ويحك ألا ترى؟ فجلسنا حتى تفرق الناس فقلت لعبد الله بن إدريس: لا تقم حتى نعلم ما عنده في هذا، فقلت يا أبا عبد الله رأيتك اليوم فعلت شيئًا أنكرته وأنكره أصحابنا عليك! ! قال: وما هو؟ قلت: جاءك أبو حنيفة فقمت له وأجلسته في مجلسك وصنعت به صنيعًا بليغًا. وهذا عند أصحابنا منكر، فقال: وما أنكرت من ذاك هذا رجل من العلم بمكان، فإن لم أقم لعلمه قمت لسنه وإن لم أقم لسنه قمت لفقهه وإن لم أقم لفقهه قمت لورعه. فأحجمني فلم يكن عندي جواب (١).

فقوله: "إن لم أقم لعلمه قمت لسنه" دليل على أن أبا حنيفة بلغ من الكبر عتيًا حتى يعتبر سفيان ذلك ويضع في اعتباره أثناء قيامه له. أي أنه طرح التحاسد جانبًا وعرف للرجل مقامه على رؤوس الأشهاد.

وكذلك يروي لنا الخطيب مثل هذا عن الأعمش. وتسليمه له بالعلم والفطانة وحسن الرأي وأخذ الفقه من جوابه (٢).

وكذلك ما قاله الجوزجاني عن حماد بن زيد قال: أردت الحج فأتيت أيوب أودعه، فقال: بلغني أن الرجل الصالح فقيه أهل الكوفة يعني أبا حنيفة يحج العام فإذا لقيته فأقرئه مني السلام (٣).

وهذه كلمة تفقأ عين المعاند الذي يدعي أن العلماء مصرون على تجريح أبي حنيفة بل العكس هو الصحيح، فالمنقول عنهم هو رجوعهم إلى الحق وإلى توثيق أبي حنيفة واستغفارهم من ذنبهم إذ اغتابوه دون وجه حق) أ. هـ.

هكذا انتهى البحث في رسالة الدكتوراه للدكتور محمّد الحارثي، وهو في ذلك يقترب كثيرًا للنتائج التي خرج بها قبله الدكتور محمود الطحان في مقدمة كتاب "تبيض الصحيفة".


(١) تاريخ بغداد: (١٣/ ٣٤١).
(٢) نفس المرجع: (١٣/ ٣٤٠ - ٣٤١).
(٣) تاريخ بغداد: (١٣/ ٣٤٠ - ٣٤١).