للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

حسنة من المخلوق فكيف من الخالق سبحانه" (١).

فأهل السنة يثبتون هذه الصفات لكن على جهة الجزاء فالله يمكر بمن يمكر به، وبمن يستحق المكر، وهكذا يقال في باقي الصفات المشابهة لهذه الصفة كالاستهزاء والكيد وغير ذلك.

ولكننا نرى ابن عبد البر ينفي عن الله تعالى الهزء والمكر والكيد ويفسر كل ذلك بالجزاء عليه، ويرى أن هذا اللفظ خرج مخرج المشاكلة اللفظية فحسب، وذلك كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}، وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيكُمْ}.

وفي هذا يقول -رحمه الله-:

"والجزاء لا يكون سيئة، والقصاص لا يكون اعتداء، لأنه حق واجب، ومثل ذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيرُ الْمَاكِرِينَ}، وقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (*) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}، وقوله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيدًا (*) وَأَكِيدُ كَيدًا}، وليس من الله -عزَّ وجلَّ- هزء ولا مكر ولا كيد -إنما هو جزاء لمكرهم واستهزائهم وجزاء كيدهم، فذكر الجزاء بمثل لفظ الابتداء لما وضع بحذائه" (٢).

وهذا الكلام من ابن عبد البر -رحمه الله- إن كان يقصد بنفيه الكيد والمكر والاستهزاء عن الله تعالى ما يشبه ذلك عند المخلوقين، فهذا حق لأن صفات الله تعالى لا تشبه صفات المخلوقين.

وإن كان يقصد به نفي وصف الله تعالى بذلك مطلقًا، ولو على جهة الجزاء، فهذا غير صحيح لما سبق تقريره من أنه يجب وصف الله تعالى بما وصف به نفسه، من غير تحريف ولا تأويل ومن غير تعطيل ولا تمثيل، مع الاعتقاد الجازم بأنها لا تماثل صفات المخلوقين، بل هي صفات تليق به تعالى وأنه يوصف بهذه الصفات على جهة المجازاة.

وقد فسرت هذه الصفات ونحوها بتفسيرات كثيرة أكثرها لا يخلو من تأويل.

ومن ذلك أنها فسرت بالانتقام، والعقوبة، كما فسرت بأنها خرجت مخرج المشاكلة اللفظية والجواب، أي أن ذلك حاق بهم، وقيل معناه أنه يظهر لهم من أحكامه في الدنيا خلاف الذي لهم عنده في الآخرة وقيل غير ذلك (٣).

ومما يشبه ذلك من الصفات التي تأولها ابن عبد البر -رحمه الله- صفة الاستحياء والإعراض فقد قال في حديث أبي واقد الليثي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينما هو جالس في المسجد، والناس معه، إذ أقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذهب واحد، فلما وقفا على رسول الله سلما، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة، فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم وأما الثالث فأدبر ذاهبًا فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الأخير، فاستحيا، فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه) (٤).


(١) مختصر الصواعق (٢/ ٣٠)، بدائع الفوائد (١/ ١٦٢).
(٢) التمهيد (١/ ١٩٥).
(٣) انظر هذه التأويلات في: تفسير ابن جرير (١/ ٣٠٠)، وتفسير القرطبي (١/ ٢٠٧)، وابن كثير (١/ ٩٠).
(٤) رواه مسلم في (كتاب السلام) رقم (٢٦)، =