للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

طيب، فلا يحرم بل حلال بالنص والقياس، أما القياس فهو: أنه يرجع إلى تلذذ حاسة السمع بإدراك ما هو مخصوص به، وهي إما مستلذة كصوت البلابل، أو مستكرهة كنهيق الحمار، فكما لا حرمة في مستلذات سائر الحواس فكذا فيه، كالألوان الخضر في البصر والأطعمة الحلوة في الذائقة. وأما النص فقوله مع بلادة طيبة يتأثر بالحداء حتى تستخف معه الأحمال الثقيلة وتمد أعناقها إلى جانب الصوت، ويترك الماء والعلف بين يديه مع شدة جوعه وعطشه، وربما تتلف نفسها في شدة السير. وقد نقل أن الطيور كانت تقف على رأس داود لاستماع صوته.

ومهما كان النظر في السماع باعتبار تأثيره في القلوب, لم يجز أن يحكم مطلقًا بإباحته وحرمته بل يختلف ذلك باختلاف أحوال القلب، قال أبو سليمان السماع: لا يجعل في القلب ما ليس فيه لكن يحرك ما هو فيه.

وإذا عرفت هذا، فاعلم: أن مواضع الغناء لا تخلو عن سبعة.

الأول: غناء الحجيج بالطبل والشاهين في وصف الكعبة والمقام والحطيم وزمزم وسائر المشاعر ووصف البادية، وهو يهيج الشوق إلى حج البيت الحرام، وانشعاله إن كان ثمة شوق حاصل، والحج محمود، والشوق وما يبعثه من الطريق المباح محمود لا محالة، ومن هذا القبيل الأشعار التي ينشدها الواعظ للترغيب والترهيب.

الثاني: ما يعتاده الغزاة لتحريض الناس على الغزو وذلك أيضًا مباح، لكن يخالف ألحان الحاج؛ لأن لك للترغيب والتشويق وهذا للتشجيع واستحقار النفس والمال, والأشعار المشجعة مثل قول المتنبي:

فإن لا تمت تحت السيوف مكرمًا ... تمت وتقاسي الذل غير مكرم

وقوله:

يرى الجبناء أن الجبن حزم ... وتلك خديعة النفس اللئيم

وأمثال ذلك. فهذا أيضًا مباح في وقت يباح فيه الغزو، ومندوب إليه في وقت استجابة.

الثالث: الجزيات في اللقاء بالعدو، والغرض منه تشجيع النفس والأنصار، وفيه التمدح بالشجاعة والنجدة، وذلك إذا كان بلفظ رشيق وصوت طيب وإن أوقع في النفس. وذلك إما مباح أو مندوب إليه محسب إباحة القتال أو ندبه، ومحظور إذا كان في قتال المسلمين وأهل الذمة، وكل قتال محظور لأن الداعي إلى المحظور محظور، وذلك منقول عن شجعان الصحابة كعلي وخالد رضي الله عنهما وغيرهما. ولذلك يمنع من الضرب بالشاهين في معترك الغزاة؛ لأنه مجلل عقدة الشجاعة لكون صوته مرفقا محزنا، فمن فعله القوى ليفتر عن القتال المندوب فهو عاص، وعن القتال الحرام فهو مطيع.

الرابع: أصوات النياحة ونغماتها المهيجة للحزن والبكاء، فذلك مذموم إن كان على الأموات للنهي عن التأسف على ما فات، وأما الحزن على تقصيره في أمر دينه وبكاؤه على خطاياه