سمعوا قوله:{من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا} قالوا من احتاج إلي القرض كان فقيرا عاجزا مغلول اليدين، أو لعلهم لما رأوا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - في غاية الفقر والضر قالوا: إن إله محمد كذلك. وقال الحسن: أرادوا أنه لا تمسهم النار إلا أياما معدودة إلا أنهم عبروا عن كونه تعالي غير معذب لهم إلي هذا القدر من الزمان بهذه العبارة الفاسدة فاستوجبوا اللعن لفساد العبارة وسوء الأدب. وقيل: لعلهم كانوا علي مذهب بعض الفلاسفة أنه تعالي موجب لذاته، وأن حدوث الحوادث عنه لا يمكن إلا علي نسق واحد فعبروا عن عدم اقتداره علي غير ذلك النسق بغل اليد. وقال المفسرون: كان اليهود أكثر الناس مالا وثروة، فلما بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - وكذبوه ضيق الله عليهم المعيشة فعند ذلك قالوا: يد الله مغلولة أي مقبوضة عن العطاء علي جهة النعت بالبخل، والجاهل إذا وقع في البلاء والشدة قد يقول مثل هذه الألفاظ. وغل اليد وبسطها مجاز مستفيض عن البخل والجود ومنه قوله:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ}[الإسراء: ٢٩] وذلك أن اليد آلة لأكثر الأعمال لا سيما لأخذ المال وإعطائه، فأطلقوا اسم السبب علي المسبب فقيل للجواد فياض الكف مبسوط سبط البنان رطب الأنامل، وللبخيل أبتر الأصابع مقبوض الكف جعد الأنامل، ولا فرق عندهم بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازا عنه حتى إنه يستعمل في ملك لا يعطي ولا يمنع إلا بالإشارة بل يقال للأقطع: ما أبسط يده بالنوال. وقد يستعمل حيث لا يصح اليد كقول لبيد:
قد أصبحت بيد الشمال زمامها
فجازاهم الله تعالى بقوله:{غلت أيديهم} وهو الدعاء عليهم بالبخل والنكد ومن ثم كانوا من أبخل خلق الله وأنكدهم، دعا به عليهم تعليما لعباده كما علمهم الاستثناء في قوله:{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}[الفتح: ٢٩].
وقال: "ولا شك أن اليد بمعني الجارحة في حقه تعالي محال للدليل الدال علي أنه ليس بجسم ولا ذي أجزاء خلافا للمجسمة، وأما سائر المعاني فلا بأس بها. وكان طريقة السلف الإيمان بها وأنها من عند الله ثم تفويض معرفتها إلي الله. وقد جاء في بعض أقوال أبي الحسن الأشعري أن اليد صفة سوى القدرة من شأنها التكوين علي سبيل الاصطفاء لقوله:{لما خلقت بيدي}[ص: ٧٥] والمراد تخصيص آم بهذا التشريف ونص القرآن ناطق بإثبات اليد تارة: {يد الله فوق أيديهم}[الفتح: ١٠]. وبإثبات اليدين أخرى كلما في الآية، وبإثبات الأيدي أخرى:{مما عملت أيدينا أنعاما}[يس: ٧١] ووجه التوحيد والجمع ظاهر. وأما وجه التثنية فذلك أن من أعطي بيديه فقد أعطي علي أكمل الوجوه فكان أبلغ في رد كلام القوم خذلهم الله، أو المراد نعمة الدين ونعمة الدنيا، أو نعمة الظاهر ونعمة الباطن، أو نعمة النفع ونعمة الدفع، أو نعمته علي أهل اليمين ونعمته علي أهل الشمال بل لطفه في حق أولئك وقهره في شأن هؤلاء أو المراد المبالغة في وصف النعمة نحو: لبيك وسعديك معناه إقامة علي طاعتك بعد إقامة وإسعادا بعد إسعاد. ثم أكد الوصف بالقدرة