وثالثها ذكر القفال أن العرش في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملوك، ثم جعل العرش كناية عن نفس الملك. يقال: استوي علي عرشه واستقر علي سرير ملكه إذا استقام له أمره واطرد. وفي ضده خلا عرشه أي انتقض ملكه وفسد.
فالله تعالى دل علي ذاته وصفاته وكيفية تدبيره للعالم بالوجه الذي ألفوه من ملوكهم ورؤسائهم لتستقر عظمة الله تعالى في قلوبهم إلا أن ذلك مشروط بنفي التشبيه، فإذا قال: إنه عالم فهموا منه أنه تعالي لا يخفي عليه شيء، ثم علموا بعقولهم أنه لم يحصل ذلك العلم بفكرة أو روية ولا باستعمال حاسة وإذا قال: قادر. علموا منه أنه متمكن من إيجاد الكائنات وتكوين المكونات ثم عرفوا أنه غني في ذلك الإيجاد والتكوين عن الآلات والأدوات وسبق المادة والمدة والفكرة والروية، وكذا القول في كل صفاته.
وإذا أخبر أن له بيتًا يجب علي عباده حجه فهموا منه أنه نصب موضعًا يقصدونه لمآربهم وحوائجهم كما يقصدون بيوت الملوك والرؤساء لهذا المطلوب، ثم علموا بعقولهم نفي التشبيه وأنه لم يجعل ذلك الببت مسكنًا لنفسه ولم ينتفع به لدفع الحر والبرد. وإذا أمرهم بتحميده وتمجيده فهموا منه أنه أمرهم بنهاية تعظيمه ثم علموا أنه لا يفرح بذلك التحميد والتمجيد ولا يحزن بتركه والإعراض عنه.
وإذا أخبر أنه خلق السموات والأرض ثم استوي علي العرش فهموا منه أنه بعد أن خلقهما استوي علي عرش الملك والجلال. ومعني التراخي أنه يظهر تصرفه في هذه الأشياء وتدبيره لها بعد خلقها لأن تأثير الفاعل لا يظهر إلا في القابل. وقال أبو مسلم: العرش لغة هو البناء والعرش الباني قال تعالي: {وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمّا يَعْرِشُونَ}[النحل: ١٨] فالمراد أنه بعد أن خلقها قصد إلي تعريشها وتسطيحها وتشكيلها بالأشكال الموافقة لها".
وقال في صفة الساق في قوله تعالى:{يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ}[القلم: ٤٢](٦/ ٣٤٠): "احتجت المشبهة علي أن لله ساقًا وأيدوه بما يروي عن ابن مسعود مرفوعًا أنه يتمثل الحق يوم القيامة ثم يقول: هل تعرفون ربكم؟ فيقولون: إذا عرفنا نفسه عرفناه فعند ذلك يكشف الرحمن عن ساقه، فأما المؤمنون فيخرون سجدًا، وأما المنافقون فتكون ظهورهم كالطبق الواحد وذلك قوله {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} حال كونهم {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} يعني يلحقهم ذل بسبب أنهم لم يكونوا مواظبين علي خدمة مولاهم في حال السلامة ووجود الأصلاب والمفاصل علي هيآتها المؤدية للركوع والسجود.
وقال أهل السنة: الدليل الدال علي أنه تعالي منزه عن الجسمية وعن كل صفات الحدوث وسمات الإمكان دل علي أن الساق لم يرد بها الجارحة، فأولوه أنه عبارة عن شدة الأمر وعظم الخطب، وأصله في الروع والهزيمة وتشمير المخدرات عن سوقهن ومثله.