من غير أدنى عدول ونظر إلى غيرها، وفخم أمرها بالإبهام ثم التفسير، والإفراد الصالح لجهة العلو تنبيهًا على الشرف، وللجنس الصالح للكثرة، ولذلك أعاد الضمير جمعًا، فكان خلق الأرض وتهيئتها لما يراد منها قبل خلق السماء، ودحوها بعد خلق السماء؛ على أن ثم للتعظيم لا للترتيب فلا إشكال، وتقديم الأرض هنا لأنها أدل لشدة الملابسة والمباشرة. وقال الحرالي: أعلى الخطاب بذكر الاستواء إلى السماء الذي هو موضع التخوف لهم لنزول المخوفات منه عليهم فقيل لهم: هذا المحل الذي تخافون منه هو استوى إليه، ومجرى لفظ الاستواء في الرتبة والمكانة أحق بمعناه من موقعه في المكان والشهادة؛ وبالجملة فالأحق بمجرى الكلِم وقوعها نبأ عن الأول الحق، ثم وقوعها نبأ عما في أمره وملكوته، ثم وقوعها نبأ عما في ملكه وإشهاده؛ فلذلك حقيقة اللفظ لا تصلح أن تختص بالمحسوسات البادية في الملك دون الحقائق التي من ورائها من عالم الملكوت، وما به ظهر الملك والملكوت من نبأ الله عن نفسه من الاستواء ونحوه في نبأ الله عن نفسه أحق حقيقة، ثم النبأ به عن الروح مثلًا واستوائها على الجسم ثم على الرأس مثلًا واستوائه على الجثة فليس تستحق الظواهر حقائق الألفاظ على بواطنها بل كانت البواطن أحق باستحقاق الألفاظ؛ وبذلك يندفع كثير من لبس الخطاب على المقتصرين بحقائق الألفاظ على محسوساتهم".
وقال في الاستواء في سورة الأعراف (٣/ ٤٠): {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} أي أخذ في التدبير لما أوجده وأحدث خلقه أخذًا مستوفى مستقصى مستقلًا به لأن هذا شأن من يملك ملكأ وياخذ في تدبيره وإظهاره أنه لا منازع له في شيء منه وليكون خطاب الناس على ما ألفوه من ملوكهم لتستقر في عقولهم عظمته سبحانه، وركز في فطرهم الأولى من نفي التشبيه منه، ويقال: فلان جلس على سرير الملك، وإن لم يكن هناك سرير ولا جلوس، وكما يقال في ضد ذلك: فلان ثل عرشه، أي ذهب عزه وانتقض ملكه وفسد أمره، فيكون هذه كناية لا يلتفت فيه إلى أجزاء التركيب، والألفاظ على ظواهرها كقولهم للطويل: طويل النجاد، وللكريم: عظيم الرماد.
ولما كان سبحانه لا يشغله شأن عن شأن، ابتدأ من التدبير بما هو آية ذلك بمشاهدته في تغطية الأرض بظلامه في آن واحد، فقال دالًا على كمال قدرته المراد بالاستواء بأمر يشاهد كل يوم على كثرة منافعه التي جعل سبحانه بها انتظام هذا الوجود".
وقال في الاستواء أيضًا والعرش في بداية سورة طه (٩/ ٥):
[فقال:{عَلَى الْعَرشِ} الحاوي لذلك كله {اسْتَوَى} أي أخذ في تدبير ذلك منفردًا، فخاطب العباد بما يفهمونه من قولهم: فلان استوى، أي جلس معتدلًا على سرير الملك، فانفرد بتدبيره وإن لم يكن هناك سرير ولا كون عليه أصلًا، هذا روح هذه العبارة، كما أن روح قوله عليه الصلاة والسلام الذي رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما "القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف شاء" أنه سبحانه وتعالى عظيم القدرة على ذلك، وهو عليه يسير