وأمَّا احتجاجُ العِراقيينَ بأنَّ الصَّاع ثَمانيةُ أرطالٍ؛ لحديثِ مُجاهدٍ: دخلْنا على عائشةَ - رضي الله عنها - فأُتِيَ بِعُسٍّ، أي: قَدَحٍ عظيمٍ، فقالت عائشة: كانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَغتسل بِمثلِه.
قال مجاهدٌ: فحَزَرتُه ثَمانيةَ أرطالٍ إلى تسعةٍ إلى عَشَرةٍ.
فلا يقابلُ ما اشتهر بالمدينة وتداولوه في مَعاشهم، توارثوا ذلك خَلَفًا عن سَلَف، كما أخرجه مالكٌ لأبي يوسف حين قَدِمَ المَدينة، وقال له: هذا صاعُ النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فوجدَه أبو يوسف خَمسةَ أرطالٍ وثُلثًا، فرجَعَ إلى قَول مالكٍ، فلا يُترك نقلُ هؤلاء الذينَ لا يجوز تواطؤُهم على الكذبِ إلى خبرِ واحدٍ يحتمِلُ التَّأويل؛ لأنَّه حَزْرٌ، والحَزرُ لا يُؤمَن فيه الغَلَط.
وأيضًا فليس فيه بيانُ مقدارِ الماء الذي كان في العُسِّ، فجازَ أن يكونَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - اغتَسل بِملئِه، وبدونِ ملئِه، وقد سبق بيانُ ذلك قريبًا.
قال (ع): ظاهرُ هذا الحديث أنَّهما رأَيا عَمَلها - رضي الله عنها - في رَأسِها وأعالي جَسدِها مِمَّا يَحِلُّ للمَحْرم نَظَرُه، ولولا شاهدا ذلك لم يكنْ لاستِدعائِها الماءَ وطهارتها بحضرَتِهما معنًى، وإنَّما ستَرت أسافِلَ البَدَن، وما لا يحِلُّ للمَحْرَمِ نظرُه، ففي ذلك استحبابُ التَّعليمِ بالفِعل، فإنَّه أوقَعُ في النفس من الوَصفِ بالقَول، وأدلُّ على المَقصودِ.