للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قصة بكاء الجَمَل، أو حق الحيوان من النفقة

• قال الإمام أحمد في «مسنده» (١٧٥٤): حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي يَعْقُوبَ يُحَدِّثُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ بَغْلَتَهُ، وَأَرْدَفَنِي خَلْفَهُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا تَبَرَّزَ كَانَ أَحَبَّ مَا تَبَرَّزَ فِيهِ هَدَفٌ يَسْتَتِرُ بِهِ، أَوْ حَائِشُ نَخْلٍ، فَدَخَلَ حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَإِذَا فِيهِ نَاضِحٌ لَهُ. فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ ، حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ.

فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ، فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ وَسَرَاتَهُ، فَسَكَنَ فَقَالَ: «مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ؟» فَجَاءَ شَابٌّ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: أَنَا. فَقَالَ: «أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا؛ فَإِنَّهُ شَكَاكَ إِلَيَّ وَزَعَمَ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ؟!» (١).


(١) في «شرح مشكل الآثار» (١٥/ ٦٣) رقم (٥٨٤٢): وكَانَ مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ ذِفْرَى الْبَعِيرِ هُوَ مَا بَعْدَ أُذُنَيْهِ.
وَمَعْنَى السَّرْوِ الْمَذْكُورِ فِيهِ: هُوَ أَسْرَى مَا فِيهِ وَأَعْلَاهُ، فَأَضَافَ ذَلِكَ إِلَيْهِ بِقَوْلِ رَاوِيهِ، أَيْ: مَسَحَ بِيَدِهِ عَلَى ذِفْرَاهُ وَعَلَى سَرْوِ مَا فِيهِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِسُكُونِهِ.
وَكَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ لِصَاحِبِ ذَلِكَ الْبَعِيرِ، بَعْدَ وُقُوفِهِ عَلَى تَشَكِّيهِ إِلَيْهِ أَنَّهُ يُجِيعُهُ وَيُدْئِبُهُ فِي الْعَمَلِ: «أَلَا تَتَّقِي اللهَ فِي الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللهُ إِيَّاهَا؟!» يَعْنِي أَخَذْتَهُ بِإِعْلَافِهِ بِمَا يُخْرِجُهُ مِنْ مَالِكِي بَنِي آدَمَ فِي مَمَالِيكِهِمُ الَّذِينَ يُجِيعُونَهُمْ.
وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مِنَ الْفِقْهِ، اخْتَلَفَ أَهْلُ الْفِقْهِ فِيهَا:
فَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ تَقُولُ: مَنْ كَانَتْ لَهُ دَابَّةٌ يُجِيعُهَا، لَمْ يُؤْخَذْ بِإِعْلَافِهَا، وَلَكِنْ يُؤْمَرُ بِذَلِكَ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ، وَيُؤْمَرُ بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ، وَتَرْكِهِ إِجَاعَتِهَا. وَمِمَّنْ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ مِنْهُمْ: أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ.
وَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ تَقُولُ: بَلْ يُجْبَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَيُؤْخَذُ بِهِ وَيُحْبَسُ فِيهِ، كَمَا يُفْعَلُ بِهِ فِيمَنْ يَمْلِكُهُ مِنْ بَنِي آدَمَ مِمَّنْ تَدْعُو الضَّرُورَةُ إِلَى ذَلِكَ مِنْهُ.
وَقَدْ كَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ بِهَذَا الْقَوْلِ بِأَخَرَةٍ.
وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ الْأَخِيرِ لِقَوْلِهِمْ هَذَا بِإِجْمَاعِهِمْ، وَإِجْمَاعِ مُخَالِفِيهِمْ عَلَى الْأَخْذِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى الْمَمْلُوكِينَ الْآدَمَيِّينَ.
فَكَانَ مِنَ الْحُجَّةِ لِمُخَالِفِيهِمْ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْآدَمَيِّينَ تَجِبُ لَهُمُ الْحُقُوقُ كَمَا تَجِبُ عَلَيْهِمُ الْحُقُوقُ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمَمَالِيكَ الْآدَمَيِّينَ يَجْنُونَ الْجِنَايَاتِ، فَيُؤْخَذُونَ بِهَا، فَلَمَّا كَانَتِ الْحُقُوقُ تَجِبُ عَلَيْهِمْ أَيْضًا يَجِبُ لَهُمْ عَلَى مَنْ تَجِبُ لَهُمْ عَلَيْهِ وَكَانَتْ إِلَيْهَا، ثُمَّ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمُ الْحُقُوقُ بِجِنَايَاتِهِمْ، فَكَانُوا كَذَلِكَ أَيْضًا فِي تَرْكِهِ وُجُوبَ الْحُقُوقِ لَهُمْ عَلَى مَالِكِيهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ بِخِلَافِ مَنْ سِوَاهُمْ مِنَ النَّاسِ، يُؤْمَرُونَ فِيهِمْ بِتَقْوَى اللهِ ?، وَبِتَرْكِ التَّضْيِيعِ لَهُمْ، وَإِنْ كَانَ مَا عَلَى مَالِكِيهِمْ فِي التَّجَاوُزِ مَا عَلَى غَيْرِ مَالِكِيهِمْ فِيهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>